فصل: الاستمرار في المعتادة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


استثناءٌ

التّعريف

1 - الاستثناء لغةً‏:‏ مصدر استثنى، تقول‏:‏ استثنيت الشّيء من الشّيء إذا أخرجته، ويقال‏:‏ حلف فلانٌ يميناً ليس فيها ثنيا، ولا مثنويّةً، ولا استثناء، كلّه واحدٌ‏.‏ وذكر الشّهاب الخفاجيّ أنّ الاستثناء في اللّغة والاستعمال يطلق على‏:‏ التّقييد بالشّرط، ومنه قوله تعالى ‏{‏ولا يستثنون‏}‏ أي لا يقولون‏:‏ «إن شاء اللّه»‏.‏ والاستثناء في اصطلاح الفقهاء والأصوليّين إمّا أن يكون لفظيّاً أو معنويّاً أو حكميّاً، فالاستثناء اللّفظيّ هو‏:‏ الإخراج من متعدّدٍ بإلاّ، أو إحدى أخواتها، ويلحق به في الحكم الإخراج بأستثني وأخرج ونحوهما على لفظ المضارع، وعرّفه السّبكيّ بأنّه‏:‏ الإخراج بإلاّ أو إحدى أخواتها من متكلّمٍ واحدٍ‏.‏ وعرّفه صدر الشّريعة الحنفيّ بأنّه‏:‏ المنع من دخول بعض ما تناوله صدر الكلام في حكمه بإلاّ أو إحدى أخواتها، فعرّفه بالمنع، ولم يعرّفه بالإخراج؛ لأنّ الاستثناء عند الحنفيّة لا إخراج به، إذ لم يدخل المستثنى في المستثنى منه أصلاً حتّى يكون مخرجاً‏.‏ فالاستثناء لمنعه من الدّخول، والفقهاء يستعملون الاستثناء أيضاً بمعنى قول‏:‏ «إن شاء اللّه» في كلامٍ إنشائيٍّ أو خبريٍّ‏.‏ وهذا النّوع ليس استثناءً حقيقيّاً بل هو من متعارف النّاس‏.‏ فإن كان بإلاّ ونحوها فهو استثناءٌ حقيقيٌّ، أو «استثناءٌ وضعيٌّ»، كأن يقول‏:‏ لا أفعل كذا إلاّ أن يشاء اللّه، أو‏:‏ لأفعلنّ كذا إلاّ أن يشاء اللّه، ومن العرفيّ قول النّاس‏:‏ إن يسّر اللّه، أو إن أعان اللّه، أو ما شاء اللّه‏.‏ وإنّما سمّي هذا التّعليق - ولو كان بغير إلاّ - استثناءً لشبهه بالاستثناء المتّصل في صرفه الكلام السّابق له عن ظاهره‏.‏ والاستثناء المعنويّ هو‏:‏ الإخراج من الجملة بغير أداة استثناءٍ، كقول المقرّ‏:‏ «له الدّار، وهذا البيت منها لي»‏.‏ وإنّما أعطوه حكم الاستثناء؛ لأنّه في قوّة قوله‏:‏ «له جميع الدّار إلاّ هذا البيت»‏.‏ والاستثناء الحكميّ يقصد به أن يرد التّصرّف مثلاً على عينٍ فيها حقٌّ للغير، كبيع الدّار المؤجّرة، فإنّ الإجارة لا تنقطع بذلك، والبيع صحيحٌ، فكأنّ البيع ورد على العين باستثناء منفعتها مدّة الإجارة‏.‏ وهذا الإطلاق قليلٌ في متعارف الفقهاء والأصوليّين، وقد ورد في الأشباه والنّظائر للسّيوطيّ والقواعد لابن رجبٍ، إلاّ أنّ هذا النّوع لا يدخل في مفهوم الاستثناء المصطلح عليه، ولذا فلا تنطبق عليه أحكام الاستثناء فيما يلي من هذا البحث‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّخصيص‏:‏

2 - التّخصيص‏:‏ قصر العامّ على بعض أفراده، فهو يبيّن كون اللّفظ قاصراً عن البعض‏.‏ وقال الغزاليّ‏:‏ إنّ الاستثناء يفارق التّخصيص في أنّ الاستثناء يشترط اتّصاله، وأنّه يتطرّق إلى الظّاهر والنّصّ جميعاً، إذ يجوز أن يقول‏:‏ له عليّ عشرةٌ إلاّ ثلاثةً، كما يقول‏:‏ اقتلوا المشركين إلاّ زيداً، والتّخصيص لا يتطرّق إلى النّصّ أصلاً، ومن الفرق بينهما أيضاً أنّ الاستثناء لا بدّ أن يكون بقولٍ، ويكون التّخصيص بقولٍ أو قرينةٍ أو فعلٍ أو دليلٍ عقليٍّ‏.‏ هذا وإنّ الفرق الأوّل الّذي ذكره الغزاليّ من اشتراط الاتّصال في الاستثناء، وعدم اشتراطه في التّخصيص، لا يجري عند الحنفيّة، لقولهم بوجوب اتّصال المخصّصات أيضاً‏.‏

ب - النّسخ‏:‏

3 - النّسخ‏:‏ رفع الشّارع حكماً من أحكامه بدليلٍ لاحقٍ، والفرق بينه وبين الاستثناء‏:‏ أنّ النّسخ رفعٌ لما دخل تحت اللّفظ، والاستثناء يدخل على الكلام فيمنع أن يدخل تحت اللّفظ ما كان يدخل لولاه، فالنّسخ قطعٌ ورفعٌ، والاستثناء منعٌ أو إخراجٌ، وأنّ الاستثناء متّصلٌ، والنّسخ لا بدّ أن يكون منفصلاً‏.‏

ج - الشّرط‏:‏

4 - يشبه الاستثناء بإلاّ وأخواتها الشّرط ‏(‏التّعليق‏)‏، لاشتراكهما في منع الكلام من إثبات موجبه، ويفترقان في أنّ الشّرط يمنع الكلّ، والاستثناء يمنع البعض‏.‏ ويشابه الاستثناء بالمشيئة الشّرط، لاشتراكهما في منع الكلّ وذكر أداة التّعليق، ولكنّه ليس على طريقه؛ لأنّه منعٌ لا إلى غايةٍ، والشّرط منعٌ إلى غاية تحقّقه، كما في قولك‏.‏ أكرم بني تميمٍ إن دخلوا داري‏.‏ ومن هذه الحيثيّة لا يدخل الاستثناء بالمشيئة في بحث التّعليق والشّرط‏.‏ ولا يورده الفقهاء في مباحث تعليق الطّلاق، وإنّما في باب الاستثناء، لمشاركته له في الاسم‏.‏

5 - القاعدة الأصيلة في الاستثناء‏:‏ الاستثناء من النّفي إثباتٌ، والاستثناء من الإثبات نفيٌ، فنحو‏:‏ ما قام أحدٌ إلاّ زيداً، يدلّ على إثبات القيام لزيدٍ، ونحو‏:‏ قام القوم إلاّ زيداً، يدلّ على نفي القيام عنه، وفي هذا خلاف أبي حنيفة ومالكٍ‏.‏ فأمّا أبو حنيفة فقد قيل‏:‏ خلافه في المسألتين‏.‏ وقيل‏:‏ بل في الثّانية فقط، فقد قال‏:‏ إنّ المستثنى من حيث الحكم مسكوتٌ عنه غير محكومٍ عليه، فزيدٌ في المثال المتقدّم غير محكومٍ بقيامه ولا بعدمه‏.‏ وحاصل الخلاف في نحو‏:‏ قام القوم إلاّ زيداً، أنّ الجمهور يقولون‏:‏ إنّ زيداً بالاستثناء دخل في عدم القيام‏.‏ وعند الحنفيّة انتقل إلى عدم الحكم‏.‏ وعند الفريقين هو مخرجٌ من الكلام الأوّل‏.‏ وأمّا مالكٌ فيوافق الجمهور على أنّ الاستثناء من النّفي إثباتٌ في غير الأيمان، أمّا في الأيمان فليس الاستثناء إثباتاً‏.‏ فمن حلف‏:‏ لا يلبس اليوم ثوباً إلاّ الكتّان، يحنث عند الجمهور إذا قعد ذلك اليوم عاريّاً فلم يلبس شيئاً؛ لأنّه لمّا كان النّفي إثباتاً فقد حلف أن يلبس الكتّان، فإذا لم يلبسه وقعد عاريّاً حنث‏.‏ أمّا عند مالكٍ فلا يحنث، وهو أحد الوجهين عند الشّافعيّة، ووجّه القرافيّ ذلك بأنّ ‏(‏إلاّ‏)‏ في هذا المثال ونحوها صفةٌ، فهي بمعنى غير، فيكون قد حلف على ألاّ يلبس ثياباً مغايرةً للكتّان‏.‏ ووجّهه أيضاً بأنّ معنى الكلام‏:‏ أنّ جميع الثّياب محلوفٌ عليها غير الكتّان‏.‏

أنواع الاستثناء

6 - الاستثناء إمّا متّصلٌ وإمّا منفصلٌ‏.‏ فالاستثناء المتّصل‏:‏ ما كان فيه المستثنى بعض المستثنى منه نحو جاء القوم إلاّ زيداً‏.‏ والاستثناء المنقطع‏:‏ ‏(‏ويسمّى المنفصل أيضاً‏)‏ ما لم يكن فيه المستثنى بعض المستثنى منه، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما لهم به من علمٍ إلاّ اتّباع الظّنّ‏}‏ فإنّ اتّباع الظّنّ ليس علماً‏.‏ ويتبيّن من هذا أنّ الاستثناء المنقطع لا إخراج به، ولا يكون من المخصّصات؛ لأنّ المستثنى لم يدخل أصلاً‏.‏ هذا ولا بدّ للاستثناء المنقطع من المخالفة بين المستثنى والمستثنى منه بوجهٍ من الوجوه، فيما يتوهّم فيه الموافقة‏.‏ والفائدة فيه دفع هذا التّوهّم، وهو في ذلك شبيهٌ ب ‏(‏لكنّ‏)‏، فإنّه للاستدراك، أي دفع التّوهّم من السّابق‏.‏ وأشهر صور المخالفة‏:‏ أن ينفي عن المستثنى الحكم الّذي ثبت للمستثنى منه، نحو‏:‏ جاءني المدرّسون إلاّ طالباً، فقد نفينا المجيء عن الطّالب بعدما أثبتناه للمدرّسين‏.‏ ولمّا كان الاستثناء المنقطع لا إخراج به، فإنّه لا يكون استثناءً حقيقةً، بل هو مجازٌ‏.‏ قال المحلّيّ‏:‏ هذا هو الأصحّ، بدليل أنّه يتبادر إلى الذّهن المتّصل دون المنقطع‏.‏ وعلى هذا جاء حدّ الاستثناء فيما سبق، فقد عرّف بما لا يشمل المنقطع وفي المسألة أقوالٌ أخرى موطن تفصيلها كتب الأصول‏.‏

صيغة الاستثناء

أ - ألفاظ الاستثناء‏:‏

7 - يذكر اللّغويّون والأصوليّون للاستثناء الحقيقيّ الألفاظ التّالية‏:‏ إلاّ، وغير، وسوى، وخلا، وعدا، وحاشا، وبيد، وليس، ولا يكون‏.‏

ب - الاستثناء بالمشيئة ونحوها‏:‏

8 - شرع اللّه تبارك وتعالى هذا النّوع من الاستثناء، فقد قال لنبيّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ولا تقولنّ لشيءٍ إنّي فاعلٌ ذلك غداً إلاّ أن يشاء اللّه‏}‏‏.‏ قال القرطبيّ‏:‏ عاتب اللّه تعالى نبيّه عليه الصلاة والسلام على قوله للكفّار حين سألوه عن الرّوح، والفتية، وذي القرنين‏:‏ ‏(‏ائتوني غداً‏)‏ ولم يستثن في ذلك‏.‏ فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوماً، حتّى شقّ ذلك عليه، وأرجف الكفّار به، فنزلت عليه سورة الكهف، وأمر في هذه الآية منها‏:‏ ألاّ يقول في أمرٍ من الأمور‏:‏ إنّي أفعل غداً كذا وكذا إلاّ أن يعلّق ذلك بمشيئة اللّه عزّ وجلّ، حتّى لا يكون محقّقاً لحكم الخبر، فإنّه إذا قال‏:‏ لأفعلنّ ذلك ولم يفعل كان كاذباً، وإذا قال لأفعلنّ ذلك إن شاء اللّه خرج عن أن يكون محقّقاً للمخبر عنه‏.‏ قال القرطبيّ‏:‏ وقال ابن عطيّة‏:‏ في الكلام حذفٌ، تقديره إلاّ أن تقول‏:‏ إلاّ أن يشاء اللّه‏.‏ أو‏:‏ إلاّ أن تقول‏:‏ إن شاء اللّه‏.‏ وقال‏:‏ والآية ليست في الأيمان، وإنّما هي في سنّة الاستثناء في غير اليمين، وأوضح كذلك أنّ آخر الآية، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر ربّك إذا نسيت‏}‏‏.‏ يدلّ - على أحد الأقوال في تفسيرها - أنّه إذا نسي الاستثناء بالمشيئة يقوله بعد ذلك إذا تذكّره‏.‏ فعن الحسن أنّه قال‏:‏ ما دام في مجلس الذّكر، وعن ابن عبّاسٍ ومجاهدٍ‏:‏ ولو بعد سنةٍ، وعن ابن عبّاسٍ‏:‏ سنتين‏.‏ فيحمل على تدارك التّبرّك بالاستثناء‏.‏ فأمّا الاستثناء المفيد حكماً - يعني في اليمين ونحوها - فلا يصحّ إلاّ متّصلاً‏.‏ هذا، وإنّ الاستثناء بالمشيئة ونحوها يدخل في كلام النّاس في الأخبار، والأيمان، والنّذور، والطّلاق، والعتاق، والوعد، والعقد، وغير ذلك‏.‏ ثمّ يكون له أثره في حلّ اليمين ونحوها‏.‏

استثناء عددين بينهما حرف الشّك

9 - إذا قال‏:‏ له عليّ ألف درهمٍ إلاّ مائة درهمٍ أو خمسين درهماً، فقد اختلف في الحاصل على قولين‏:‏ الأوّل‏:‏ وهو الأصحّ عند الحنفيّة‏:‏ يلزمه تسعمائةٍ؛ ووجهه أنّه لمّا كان الاستثناء تكلّماً بالباقي بعد الثّنيا شككنا في المتكلّم به، والأصل عدم شغل الذّمم، فثبت الأقلّ‏.‏ والثّاني‏:‏ وهو ظاهر مذهب الشّافعيّ، وروايةٌ عند الحنفيّة‏:‏ أنّ الاستثناء «خروجٌ بعد دخولٍ»‏.‏ يلزمه تسعمائةٍ وخمسون؛ فإنّه لمّا دخل الألف صار الشّكّ في المخرج، فيخرج الأقلّ‏.‏ وتفصيل ذلك في الإقرار والملحق الأصوليّ‏.‏

الاستثناء بعد جملٍ متعاطفةٍ

10 - إذا ورد الاستثناء بإلاّ ونحوها بعد جملٍ متعاطفةٍ بالواو فعند الحنفيّة والفخر الرّازيّ من الشّافعيّة‏:‏ الظّاهر أنّه يتعلّق بالجملة الأخيرة فقط‏.‏ وعند جمهور الشّافعيّة ومن وافقهم‏:‏ الظّاهر أنّه يعود إلى الكلّ‏.‏ وقال الباقلاّنيّ بالتّوقّف في عوده إلى ما عدا الأخير‏.‏ وقال الغزاليّ بالتّوقّف مطلقاً‏.‏ وقال أبو الحسين المعتزليّ‏:‏ إن ظهر الإضراب عن الأولى، كما لو اختلف بالإنشائيّة والخبريّة، أو الأمريّة والنّهييّة، أو لم يكن اشتراكٌ في الغرض المسوق له الكلام، فإنّه يعود للأخيرة فقط، وإلاّ فللجميع‏.‏ والنّزاع كما ترى في الظّهور‏.‏ ولا تتأتّى دعوى النّصوصيّة في واحدٍ من الاحتمالات المذكورة‏.‏ ولم ينازع أحدٌ أيضاً في إمكان عود الاستثناء إلى الأخيرة وحدها، وإمكان عوده إلى الكلّ، فقد ثبت ذلك في اللّغة، هذا إذا كان العطف بالواو، أمّا إذا كان العطف بالفاء أو ثمّ فالخلاف قائمٌ أيضاً، لكن ذهب بعض الشّافعيّة - كإمام الحرمين والآمديّ - إلى أنّه يعود حينئذٍ إلى الأخير‏.‏ واحتجّ الحنفيّة بأنّ حكم الجملة الأولى، ظاهرٌ في الثّبوت عموماً، ورفعه عن البعض بالاستثناء مشكوكٌ فيه لجواز كونه للأخيرة فقط، فلا يرفع حكم الأولى؛ لأنّ الظّاهر لا يعارضه المشكوك‏.‏ بخلاف الأخيرة، فإنّ حكمها غير ظاهرٍ؛ لأنّ الرّفع ظاهرٌ فيها فيما لا صارف له، فيتعلّق بها‏.‏ واحتجّوا ثانياً بأنّ الاتّصال من شرط الاستثناء، والاتّصال ثابتٌ في الجملة الأخيرة، أمّا فيما قبلها فإنّها متّصلةٌ بالعطف، إلاّ أنّ الاتّصال بالعطف فقط ضعيفٌ، فلا يعتبر إلاّ بدليلٍ آخر موجبٍ لاعتبار هذا الاتّصال‏.‏ والشّافعيّة ومن معهم احتجّوا بالقياس على الشّرط، فإنّه إذا تعقّب جملاً رجع إليها اتّفاقاً‏.‏ واحتجّوا أيضاً بأنّ العطف يجعل المتعدّد كالمفرد، فالمتعلّق بالواحد هو المتعلّق بالكلّ‏.‏ وبأنّ الغرض من الاستثناء قد يتعلّق بالكلّ، فإمّا أن يكرّر الاستثناء بعد كلّ جملةٍ، وإمّا أن يؤتى به بعد واحدةٍ فقط، أو يؤتى به بعد الجميع‏.‏ فالتّكرار مستهجنٌ، فبطل الأوّل وفي الثّاني ترجيحٌ من غير مرجّحٍ، فبقي الوجه الثّالث، فيلزم الظّهور فيه‏.‏

11 - وممّا اختلف فيه بناءً على هذه القاعدة قول اللّه تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون إلاّ الّذين تابوا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ الّذين تابوا من القاذفين لا تقبل شهادتهم، والاستثناء عائدٌ على الحكم بفسقهم‏.‏ وقال الشّافعيّة ومن وافقهم‏:‏ تقبل شهادتهم؛ لأنّ الاستثناء يعود على الجمل الثّلاث‏.‏ أمّا الجلد فاتّفق على عدم سقوطه بالتّوبة لأجل الدّليل المانع من تعلّق الاستثناء بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاجلدوهم ثمانين جلدةً‏}‏ والمانع هو كون الجلد حقّاً للآدميّ، وحقّ الآدميّ لا يسقط بالتّوبة‏.‏

الاستثناء بعد المفردات المتعاطفة

12 - إن كان الاستثناء بعد مفرداتٍ متعاطفةٍ فالخلاف فيه كالخلاف في الجمل، ولكن صرّح الشّافعيّة بأنّه أولى بعوده للكلّ من الوارد بعد الجمل المتعاطفة، وذلك لعدم استقلال المفردات‏.‏ نحو‏:‏ تصدّق على الفقراء والمساكين وابن السّبيل إلاّ الفسقة منهم‏.‏

الاستثناء العرفيّ بعد المتعاطفات

13 - أمّا الاستثناء العرفيّ بإن شاء اللّه ونحوها، فإنّه إذا تعقّب جملاً نحو‏:‏ واللّه لا آكل ولا أشرب إن شاء اللّه، فيتعلّق بالجميع اتّفاقاً‏.‏ ووجهه أنّه شرطٌ وليس من حقيقة الاستثناء، والشّرط مقدّمٌ تقديراً؛ لأنّ له صدر الكلام باتّفاق النّحاة، فيصحّ تعلّقه بالأوّل؛ لأنّه مقارنٌ له تقديراً‏.‏ بخلاف الاستثناء فإنّه مؤخّرٌ لفظاً أو تقديراً‏.‏

الاستثناء بعد الاستثناء

14 - هذا النّوع من الاستثناء ينقسم قسمين‏:‏ الأوّل‏:‏ الاستثناءات المتعدّدة المتعاطفة نحو‏:‏ له عليّ عشرةٌ إلاّ أربعةً، وإلاّ ثلاثةً، وإلاّ اثنين‏.‏ وحكمها أن تعود كلّها إلى المستثنى منه المذكور قبلها‏.‏ فيلزمه في المثال المذكور واحدٌ فقط‏.‏ الثّاني‏:‏ الاستثناءات المتوالية بدون عاطفٍ إن لم يكن أحدها مستغرقاً لما قبله، فإنّ كلاًّ منها يعود إلى ما قبله‏.‏ فلو قال‏:‏ له عليّ عشرةٌ إلاّ سبعةً، إلاّ خمسةً إلاّ درهمين، صحّ، وكان مقرّاً بستّةٍ، فإنّ خمسة إلاّ درهمين عبارة عن ثلاثةٍ استثناها من سبعةٍ بقي أربعةٌ، استثناها من عشرةٍ بقي ستّةٌ‏.‏ وإن كان أحد الاستثناءات مستغرقاً لما قبله فإنّها لا تبطل، بل تعود جميعها إلى المستثنى منه، وفي ذلك تفصيلٌ واختلافٌ‏.‏

شروط الاستثناء

15 - شروط الاستثناء عامّةٌ، ما عدا شرط الاستغراق، فإنّه لا يأتي في الاستثناء بالمشيئة، وقد صرّح بذلك الرّمليّ، وسيأتي أيضاً أنّ شرط القصد مختلفٌ فيه في الاستثناء بالمشيئة‏.‏

الشّرط الأوّل‏:‏

16 - يشترط في الاستثناء أن يكون متّصلاً بالمستثنى منه، بألاّ يكون مفصولاً بما يعدّ في العادة فاصلاً‏.‏ فلو كان مفصولاً بتنفّسٍ أو سعالٍ أو نحوهما لم يمنع الاتّصال، وكذلك إن حال بين المستثنى والمستثنى منه كلامٌ غير أجنبيٍّ، ومنه النّداء؛ لأنّه للتّنبيه والتّأكيد‏.‏ أمّا إن سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه، أو فصل بكلامٍ أجنبيٍّ، أو عدل إلى شيءٍ آخر استقرّ حكم المستثنى فلم يرتفع، بخلاف ما لا يمكن، كما لو أخذ آخذٌ بفمه فمنعه الكلام‏.‏ هذا هو القول المقدّم عند الأصوليّين والفقهاء، ويشترط لتحقّق الاتّصال أن ينوي الاستثناء في الكلام السّابق، فلو لم ينو إلاّ بعد فراغ المستثنى منه لم يصحّ‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ العمدة مجرّد الاتّصال سواءٌ نوى أوّل الكلام، أو أثناءه، أو بعد فراغ المستثنى منه‏.‏ وقد نقل خلاف هذا عن قومٍ‏.‏ فعن ابن عبّاسٍ يجوز الاستثناء إلى شهرٍ، وقيل أبداً‏.‏ وعن سعيد بن جبيرٍ‏:‏ إلى أربعة أشهرٍ، وعن عطاءٍ والحسن‏:‏ يجوز في المجلس، وأومأ إليه أحمد في الاستثناء في اليمين، وعن مجاهدٍ‏:‏ إلى سنتين‏.‏ وقيل‏:‏ ما لم يأخذ في كلامٍ آخر‏.‏ وقيل‏:‏ إن نوى الاستثناء في أثناء الكلام جاز التّأخير بعده‏.‏ ونسب هذا القول إلى الإمام أحمد‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز التّأخير في كلام اللّه تعالى خاصّةً‏.‏ وما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا حرّم مكّة، وقال‏:‏ «لا يختلى شوكها، ولا يعضد شجرها، قال العبّاس‏:‏ يا رسول اللّه إلاّ الإذخر، فإنّه لقينهم وبيوتهم، فقال‏:‏ إلاّ الإذخر» فهذا ظاهره أنّه استثناءٌ منفصلٌ‏.‏ فحمل على أنّه استثناءٌ من محذوفٍ مقدّرٍ‏.‏ فكأنّه كرّر القول، فلا يتعلّق بالكلام المذكور أوّلاً وحجّة الجمهور القائلين بوجوب الاتّصال؛ أنّ القول بجواز الاستثناء غير المتّصل يستلزم ألاّ يجزم بصدقٍ أو كذبٍ في شيءٍ من الأخبار لاحتمال الاستثناء، وكذلك لا يثبت عقدٌ من العقود، ولإجماع أئمّة اللّغة على وجوب الاتّصال‏.‏ فلو قال‏:‏ له عشرةٌ، ثمّ زاد بعد شهرٍ‏:‏ إلاّ ثلاثةً يعدّ لغواً‏.‏ ولعلّ ما روي عن ابن عبّاسٍ، ومن قال شبه قوله، إنّما قصد به أنّ من نسي أن يقول‏:‏ «إن شاء اللّه» يقولها متى تذكّر ذلك، ولو بعد مدّةٍ طويلةٍ، امتثالاً للآية، وليس في الاستثناء الموجب رفع حكم المستثنى كما تقدّم‏.‏

الشّرط الثّاني‏:‏

17 - ويشترط في الاستثناء ألاّ يكون المستثنى مستغرقاً للمستثنى منه، فإنّ الاستثناء المستغرق للمستثنى منه باطلٌ اتّفاقاً، إلاّ عند من شذّ‏.‏ وادّعى البعض الإجماع عليه‏.‏ فلو قال‏:‏ «له عليّ عشرةٌ إلاّ عشرةً» لغا قوله «إلاّ عشرةً» ولزمه عشرةٌ كاملةٌ‏.‏ وممّن شذّ ابن طلحة المالكيّ في المدخل، نقل عنه القرافيّ أنّه قال فيمن قال لزوجته‏:‏ «أنت طالقٌ ثلاثاً إلاّ ثلاثاً»‏:‏ لا يقع عليه طلاقٌ‏.‏ وعند الحنفيّة في ذلك تفصيلٌ، فهم يوافقون على بطلان الاستثناء إن كان بعين لفظ المستثنى منه، كقوله‏:‏ عبيدي أحرارٌ إلاّ عبيدي، أو بلفظٍ مساوٍ له، كقوله‏:‏ نسائي طوالق إلاّ زوجاتي‏.‏ أمّا إن كان بغيرهما كقوله‏:‏ ثلث مالي لزيدٍ إلاّ ألفاً، والثّلث ألفٌ‏.‏ فيصحّ الاستثناء ولا يستحقّ زيدٌ شيئاً‏.‏ فالشّرط عند الحنفيّة إيهام البقاء لا حقيقته، حتّى لو طلّقها ستّاً إلاّ أربعاً صحّ، ووقع ثنتان‏.‏ وإن كانت السّتّة لا صحّة لها من حيث الحكم؛ لأنّ الطّلاق لا يزيد عن ثلاثٍ، ومع هذا لا يجعل كأنّه قال‏:‏ أنت طالقٌ ثلاثاً إلاّ أربعاً، فكأنّ اعتبار اللّفظ أولى‏.‏ وجعل صاحب المغني من الحنابلة من الاستثناء المستغرق أن يقول مثلاً‏:‏ «له عليّ ثلاثة دراهم ودرهمان إلاّ درهمين» فلا يصحّ الاستثناء، ويلزمه جميع ما أقرّ به، وهو في مثالنا خمسة دراهم‏.‏

استثناء الأكثر والأقل

18 - أكثر العلماء على أنّه يجوز استثناء النّصف، وما زاد على النّصف، ما لم يكن مستغرقاً كما تقدّم، نحو‏:‏ «له عليّ عشرةٌ إلاّ ستّةً أو‏:‏ له عليّ عشرةٌ إلاّ خمسةً»‏.‏ ونسب صاحب فواتح الرّحموت هذا القول إلى الحنفيّة، والأكثر من المالكيّة والشّافعيّة‏.‏ وخالف في ذلك الحنابلة، والقاضي أبو بكرٍ الباقلاّنيّ من المالكيّة‏.‏ قيل‏:‏ إنّما يمنع الحنابلة استثناء أكثر من النّصف، ويجيزون استثناء النّصف‏.‏ وقيل‏:‏ يمنعون النّصف أيضاً‏.‏ وفي المسألة قولٌ ثالثٌ‏:‏ أنّه يمنع استثناء الأكثر إن كان كلٌّ من المستثنى والمستثنى منه عدداً صريحاً‏.‏ قيل وبهذا قال القاضي الباقلاّنيّ آخراً‏.‏ وقد احتجّ لجواز استثناء الأكثر في غير العدد بقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ إلاّ من اتّبعك من الغاوين‏}‏ والغاوون هم الأكثر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أكثر النّاس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏ واحتجّ لجوازه أيضاً في العدد باتّفاق الفقهاء جميعاً على لزوم واحدٍ في الإقرار بلفظ‏:‏ «له عليّ عشرةٌ إلاّ تسعةً» واحتجّ الحنابلة بأنّ أئمّة اللّغة أنكروا أن يكون استثناء الأكثر جائزاً لغةً، منهم ابن جنّيٍّ، والزّجّاج، والقتيبيّ‏.‏ قال الزّجّاج‏:‏ لم يأت الاستثناء إلاّ في قليلٍ من الكثير‏.‏

الشّرط الثّالث‏:‏

19 - ويشترط في الاستثناء أن يكون المستثنى ممّا يدخل تحت المستثنى منه، واختلف العلماء في صحّة الاستثناء إذا كان المستثنى من غير جنس المستثنى منه، فجوّزه مالكٌ، والشّافعيّ، والباقلاّنيّ، وجماعةٌ من المتكلّمين‏.‏ ومثال ذلك قوله‏:‏ له عليّ ألفٌ من الدّنانير إلاّ فرساً»‏.‏ وكذا لو قال‏:‏ له عليّ فرسٌ إلاّ عشرة دنانير، فيجبر على البيان فإن استغرقت القيمة المقرّ به بطل الاستثناء‏.‏ ولزمه الألف بتمامها‏.‏ وأمّا الحنفيّة، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يصحّ استحساناً استثناء المقدّر من المقدّر الكيليّ والوزنيّ، والمعدود الّذي لا تتفاوت آحاده، كالفلوس والجوز، من الدّراهم والدّنانير‏.‏ وذلك لأنّها تثبت في الذّمّة فاعتبرت جنساً واحداً، فكانت كالذّهب والفضّة‏.‏ وتطرح قيمة المستثنى ممّا أقرّ به‏.‏ ويصحّ عندهما هذا النّوع من الاستثناء ولو استغرقت القيمة جميع ما أقرّ به، لاستغراقه بغير المساوي‏.‏ والقول الآخر للحنفيّة أنّه لا يصحّ، وهو قول محمّدٍ وزفر‏.‏ وهو القياس‏.‏ أمّا في غير المقدّرات، كما لو قال‏:‏ له عليّ مائة درهمٍ إلاّ ثوباً، فلا يصحّ عند الحنفيّة جميعاً، قياساً واستحساناً‏.‏ وعند الحنابلة الاستثناء من غير الجنس لا يصحّ إلاّ أن يستثنى الدّراهم من الدّنانير، أو الدّنانير من الدّراهم‏.‏ وفي روايةٍ عندهم لا يصحّ مطلقاً‏.‏ وحجّة المجيزين أنّ الاستثناء من غير الجنس ورد في القرآن، منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس كان من الجنّ‏}‏‏.‏ وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلاّ قيلاً سلاماً سلاماً‏}‏‏.‏ وحجّة المانعين أنّ الاستثناء صرف اللّفظ بحرف الاستثناء عمّا كان يقتضيه لولاه‏.‏ وغير الجنس المذكور ليس بداخلٍ في الكلام، فإذا ذكره فما صرف الكلام عن صوبه، ولا ثناه عن وجه استرساله، فلا يكون استثناءً، وإنّما يسمّى هذا النّوع استثناءً مجازاً، وهو ما تقدّم بيانه في الاستثناء المنقطع ‏(‏ف / 6‏)‏ وإنّما هو في الحقيقة استدراكٌ، وتكون إلاّ بمعنى لكنّ، فإذا ذكر الاستدراك بعد الإقرار، كأن قال‏:‏ له عندي مائة درهمٍ إلاّ ثوباً لي عليه كان باطلاً؛ لأنّه يكون مقرّاً بشيءٍ، مدّعياً لشيءٍ سواه، فيقبل إقراره، وتبطل دعواه وهي الاستثناء‏.‏ وحجّة من فرّق بين الأثمان وغيرها أنّ قدر الدّنانير من الدّراهم معلومٌ، ويعبّر بأحدهما عن الآخر، فإذا استثنى أحدهما من الآخر علم أنّه أراد التّعبير بأحدهما عن الآخر، فإنّ قوماً يسمّون عشرة دراهم ديناراً، وفي بلادٍ أخرى يسمّون ثمانية دراهم ديناراً‏.‏

الشّرط الرّابع‏:‏ التّلفّظ بالاستثناء

20 - ذهب ابن حبيبٍ من المالكيّة إلى أنّه يجزئ في الاستثناء تحريك الشّفتين إن لم يكن مستحلفاً، فإن كان مستحلفاً لم يجزئه إلاّ الجهر‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ ينفعه وإن لم يسمعه المحلوف له‏.‏ واشترط الشّافعيّة للاستثناء أن يتلفّظ به بحيث يسمع غيره، وإلاّ فالقول قول خصمه في النّفي، وحكم بالوقوع إذا حلف الخصم على نفي الاستثناء‏.‏ هذا فيما يتعلّق به حقّ الغير، أمّا فيما عداه فيكفي أن يسمع نفسه، إن اعتدل سمعه ولا عارض، ويديّن فيما بينه وبين اللّه تعالى‏.‏ ولم يظهر للحنابلة تعرّضٌ لصفة النّطق المعتبرة في الاستثناء، غير أنّهم فرّقوا في نيّة الاستثناء بالقلب بين أن يكون المستثنى منه المنطوق به عامّاً، كقوله‏:‏ نسائي طوالق، واستثنى بقلبه واحدةً، فيكون له استثناؤه ديانةً لا قضاءً؛ لأنّ قوله «نسائي» اسمٌ عامٌّ يجوز التّعبير به عن بعض ما وضع له، وبين أن يكون نصّاً فيما يتناوله لا يحتمل غيره كالعدد، فلا يرتفع بالنّيّة ما ثبت باللّفظ، كقوله‏:‏ نسائي الأربع أو الثّلاث طوالق، فلا يقبل استثناؤه ظاهراً، وقيل لا يقبل ولا باطناً‏.‏ وعند الحنفيّة الصّحيح أنّه إذا تكلّم بالطّلاق واستثنى فلا بدّ أن يكون استثناؤه مسموعاً، والمراد ما شأنه أن يسمع، بحيث لو قرّب شخصٌ أذنه إلى فمه يسمع استثناءه، ولو حال دون سماع المنشئ للكلام صممٌ أو كثرة أصواتٍ‏.‏ وفي قول الكرخيّ من الحنفيّة ليس من شرط صحّة الاستثناء أن يكون بلفظٍ مسموعٍ ويقول الحنفيّة أيضاً‏:‏ إنّ الاستثناء بالكتابة صحيحٌ، حتّى لو تلفّظ بالطّلاق وكتب الاستثناء موصولاً، أو عكس، أو أزال الاستثناء بعد الكتابة لم يقع الطّلاق‏.‏ وجاء في التتارخانية من كتب الحنفيّة‏:‏ أنّ الزّوجة إذا سمعت الطّلاق ولم تسمع الاستثناء لا يسعها أن تمكّنه من الوطء، ويلزمها منازعته‏.‏

21 - ولو اختلف الزّوجان في صدور الاستثناء، فادّعاه الزّوج وأنكرته الزّوجة، فيقبل قوله‏.‏ وهذا ظاهر الرّواية عن أبي حنيفة‏.‏ وهو المذهب‏.‏ وفي قولٍ عند الحنفيّة‏:‏ لا يقبل إلاّ ببيّنةٍ، عليه الاعتماد والفتوى احتياطاً لغلبة الفساد، إذ قد يعلّمه ذلك حيلةً بعض من لا يخاف اللّه تعالى، ولأنّ دعوى الزّوج خلاف الظّاهر، فإنّه بدعوى الاستثناء يدّعي إبطال الموجب بعد الاعتراف به‏.‏ فالظّاهر خلاف قوله، وإذا عمّ الفساد ينبغي الرّجوع إلى الظّاهر‏.‏ وفي قولٍ ثالثٍ عندهم نقله ابن الهمام عن المحيط إن عرف الزّوج بالصّلاح فالقول قوله تصديقاً له، وإن عرف بالفسق أو جهل حاله فلا؛ لغلبة الفساد‏.‏ وأيّده ابن عابدين‏.‏ ولم نطّلع على نصوصٍ لغير الحنفيّة في هذه المسألة‏.‏

الشّرط الخامس‏:‏ القصد‏:‏

22 - اشترط المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة لصحّة الاستثناء في اليمين والطّلاق القصد، سواءٌ أكان الاستثناء حقيقيّاً، بإلاّ أو إحدى أخواتها، أم عرفيّاً، بإن شاء اللّه ونحوه‏.‏ فلا يفيد الاستثناء الحالف إلاّ أن يقصد معنى الاستثناء أي‏:‏ حلّ اليمين، لا أن يقصد مجرّد التّبرّك، أو لم يقصد شيئاً‏.‏ وكذا لا بدّ أن يقصد التّلفّظ به، فلو جرى الاستثناء على، لسانه سهواً لم ينفعه‏.‏ وقد اتّفقوا أيضاً على صحّة هذا القصد إن تحقّق في أوّل النّطق بالكلام المشتمل على الاستثناء، أو في أثنائه وقبل الفراغ منه‏.‏ أمّا إن وجدت النّيّة بعد الفراغ منه فهي صحيحةٌ عند الحنابلة بشرط الاتّصال‏.‏ أمّا المالكيّة، والشّافعيّة فلكلٍّ منهم قولان‏:‏ الأوّل وهو المقدّم عند المالكيّة، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة‏:‏ أنّ النّيّة صحيحةٌ وينحلّ بها اليمين أو الطّلاق بشرط الاتّصال كما تقدّم، والقول الثّاني، وهو غير المقدّم عند المالكيّة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة‏:‏ أنّ القصد بعد الفراغ لا يصحّ، فتنعقد اليمين، ويقع الطّلاق‏.‏ أمّا الحنفيّة فقد صرّحوا بعدم اشتراط القصد في الاستثناء بالمشيئة، فيكون عدم اشتراطه في الاستثناء بإلاّ وأخواتها من باب أولى‏.‏ وهذا ما قاله ‏(‏أسدٌ‏)‏ من الحنفيّة، وهو ظاهر المذهب؛ لأنّ الطّلاق مع الاستثناء ليس طلاقاً‏.‏ وكذا إذا قال‏:‏ «إن شاء اللّه» من لا يعرف معناها‏.‏ والقول الآخر عندهم أنّه يفتقر إلى نيّةٍ، وهو قول ‏(‏خلفٍ‏)‏‏.‏

جهالة المستثنى بإلاّ وأخواتها

23 - الاستثناء من حيث الجهالة نوعان‏:‏ الأوّل‏:‏ ما سوى العقود، كالإقرار، فيجوز أن يستثني المتكلّم شيئاً مجهولاً كأن يقول المقرّ‏:‏ له عندي ألف دينارٍ إلاّ شيئاً، أو‏:‏ إلاّ قليلاً، أو‏:‏ إلاّ بعضها، أو يقرّ له بدارٍ ويستثني غرفةً منها دون أن يعيّنها‏.‏ وكما يجري في الإقرار يجري في غيره من النّذر واليمين والطّلاق وغيرها‏.‏ ويطالب المتكلّم ببيان ما أبهمه، ويلزمه ذلك إن تعلّق به حقّ الغير، وفي حكم ذلك في الأبواب المختلفة تنظر المصطلحات الخاصّة بتلك الأبواب‏.‏ النّوع الثّاني‏:‏ العقود، والاستثناء المبهم في العقود باطلٌ ومفسدٌ للعقد‏.‏ وفي الحديث «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الثّنيا إلاّ أن تعلم»‏.‏ وعلّة ذلك أنّ المعقود عليه يشترط أن يكون معلوماً، فلو كان ما استثنى غير معلومٍ عاد المستثنى منه غير معلومٍ، كمن باع ثوباً إلاّ شيئاً منه‏.‏

24 - وقد وضع الحنفيّة قاعدةً لما يجوز استثناؤه في العقود بأنّ «ما جاز إيراد العقد عليه بانفراده صحّ استثناؤه من العقد» فبيع قفيزٍ من صبرةٍ جائزٌ، فكذا استثناؤه‏.‏ واشترط المالكيّة كذلك معلوميّة المستثنى، فلو استثنى جزءاً شائعاً فله استثناء ما شاء، أمّا إن استثنى قدراً معلوماً بالكيل من صبرةٍ باعها جزافاً، أو أرطالاً من لحم شاةٍ، لم يجز أن يستثني أكثر من قدر الثّلث، ويجوز عندهم استثناء جلدٍ وساقطٍ من رأسٍ وأكارع، في السّفر فقط، وإنّما جاز استثناؤهما في السّفر فقط لخفّة ثمنهما فيه دون الحضر‏.‏ والحنابلة في اشتراط كون المستثنى معلوماً يوافقون الحنفيّة، ويقولون بالقاعدة الّتي قرّروها في هذه المسألة، وإن كانوا يخالفونهم في بعض آحاد المسائل، لمخالفتهم في تحقّق مناط الحكم فيها، فهم مثلاً يجيزون استثناء الرّأس والأطراف من الشّاة المبيعة؛ لأنّهم اعتبروها معلومةً‏.‏ واحتجّوا بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «لمّا هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكرٍ وعامر بن فهيرة، مرّوا براعي غنمٍ، فذهب أبو بكرٍ وعامرٌ، فاشتريا منه شاةً وشرطا له سلبها»‏.‏

ما يثبت فيه حكم الاستثناء الحقيقي

25 - حكم الاستثناء الحقيقيّ عند الجمهور التّخصيص، وعند الحنفيّة القصر، لأنّهم يشترطون في المخصّص أن يكون مستقلاًّ‏.‏ ويثبت حكمه هذا حيثما تمّت شروطه المعتبرة الّتي تقدّم ذكرها، فيثبت في العقود والوعود والنّذور والأيمان والطّلاق، وسائر التّصرّفات القوليّة، فلو استثنى من المبيع جزءاً معلوماً من العين، أو منفعةً معلومةً لمدّةٍ معلومةٍ جاز، إلاّ أنّه قد يعرض لبعض الاستثناءات البطلان لمانعٍ‏.‏

ما يثبت فيه حكم الاستثناء بالمشيئة

26 - الاستثناء بالمشيئة إذا تمّت شروطه يستتبع أثره وهو‏:‏ إبطال حكم ما قبله‏.‏ وهذا الإبطال إمّا بمعنى الحلّ بعد الانعقاد، وإمّا بمعنى منع الانعقاد، فإذا بدا للحالف مثلاً أن يستثني بعد تمام يمينه تنحلّ يمينه باستثنائه عند من أجاز نيّة الاستثناء بعد تمام اليمين‏.‏ والّذي ينويه الحالف قبل الفراغ من يمينه ثمّ يأتي به يمنع انعقاد يمينه‏.‏

27 - أمّا ما يبطله الاستثناء، فقد اتّفق الفقهاء على أنّه يبطل اليمين، لما ورد من الأحاديث الّتي قدّم ذكرها‏.‏ وأمّا ما عدا ذلك فقد اختلفوا فيه على اتّجاهين‏:‏ الاتّجاه الأوّل‏:‏ أنّ الاستثناء بالمشيئة يمنع انعقاد ما اقترن به من التّصرّفات القوليّة‏.‏ وهذا مذهب الحنفيّة والشّافعيّة‏.‏ غير أنّ الحنفيّة نصّوا على أنّ حكم الاستثناء يثبت في صيغ الإخبار، وإن كان إنشاء إيجابٍ، لا في الأمر والنّهي‏.‏ فلو قال‏:‏ اعطوا ثلث مالي لفلانٍ بعد موتي إن شاء اللّه بطل الاستثناء وصحّت الوصيّة‏.‏ وعن الحلوانيّ من الحنفيّة‏:‏ أنّ كلّ ما يختصّ باللّسان يبطله الاستثناء، كالطّلاق والبيع، بخلاف ما لا يختصّ به كنيّة الصّوم، فلا يرفعها الاستثناء فلو قال‏:‏ نويت صيام غدٍ إن شاء اللّه، له أداؤه بتلك النّيّة الاتّجاه الثّاني‏:‏ أنّ الاستثناء بالمشيئة لا يمنع انعقاد أيّ تصرّفٍ ما عدا الأيمان، وهو مذهب المالكيّة، والحنابلة‏.‏ وبه قال الأوزاعيّ والحسن وقتادة، فعند المالكيّة - باستثناء ابن الموّاز - أنّ الاستثناء ‏(‏بإن شاء اللّه‏)‏ يبطل الأيمان، ولا يبطل ما قبله في غير الأيمان، فلو أقرّ قائلاً‏:‏ له في ذمّتي ألفٌ إن شاء اللّه، أو‏:‏ إن قضى اللّه، لزمه الألف؛ لأنّه لمّا أقرّ علمنا أنّ اللّه شاء أو قضى‏.‏ وسواءٌ عند المالكيّة أكان الطّلاق والعتاق منجّزاً أم كان معلّقاً‏.‏ قال ابن عبد البرّ من المالكيّة في المشيئة بعد تعليق الطّلاق‏:‏ إنّما ورد التّوقيف بالاستثناء في اليمين باللّه تعالى، وقول المتقدّمين‏:‏ الأيمان بالطّلاق والعتاق إنّما جاز على التّقريب والاتّساع، ولا يمين في الحقيقة إلاّ باللّه، وهذا طلاقٌ وعتاقٌ‏.‏ أمّا الحنابلة فقد نصّوا على أنّ اليمين يبطلها الاستثناء‏.‏ وأمّا غيرها فلا يؤثّر فيه، كما لو قال‏:‏ بعتك أو وهبتك كذا إن شاء اللّه، فيثبت حكم البيع والهبة وهذا هو القول المقدّم عندهم‏.‏ أمّا الطّلاق والعتاق ففي روايةٍ‏:‏ توقّف أحمد عن القول فيهما‏.‏ وفي روايةٍ أخرى‏:‏ قطع أنّه لا ينفعه الاستثناء فيهما، وقال‏:‏ من حلف فقال‏:‏ إن شاء اللّه لم يحنث، وليس له استثناءٌ في الطّلاق والعتاق لأنّهما ليسا من الأيمان‏.‏ ونقله صاحب المغني أيضاً عن الحسن وقتادة، وقال‏:‏ إنّ الحديث إنّما تناول الأيمان، وليس هذا بيمينه، إنّما هو تعليقٌ على شرطٍ‏.‏

28 - وذكر متأخّرو الحنابلة في الاستثناء في الطّلاق والعتاق وغيرهما قولاً ثالثاً، قال ابن تيميّة، ونقله روايةً عن أحمد - وهو أنّ إيقاع الطّلاق والعتاق لا يدخل فيما يبطله الاستثناء، أمّا الحلف بالطّلاق والعتاق فيدخل - قال‏:‏ ومن أصحابه من قال‏:‏ إن كان الحلف بصيغة القسم ‏(‏كما لو قال‏:‏ عليّ الطّلاق لأفعلنّ كذا‏)‏ دخل في حديث الاستثناء، ونفعته المشيئة روايةٌ واحدةٌ‏.‏ وإن كان بصيغة الجزاء كما لو قال لزوجته‏:‏ إن فعلت كذا فأنت طالقٌ ففيه روايتان‏.‏ قال ابن تيميّة‏:‏ وهذا القول هو الصّواب المأثور عن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجمهور التّابعين كسعيدٍ والحسن، لم يجعلوا في الطّلاق استثناءً، ولم يجعلوه من الأيمان‏.‏ ثمّ نقل عن الصّحابة وجمهور التّابعين أنّهم جعلوا الحلف بالصّدقة والهدي والعتاق ونحو ذلك يميناً مكفّرةً‏.‏ وقال أحمد‏:‏ إنّما يكون الاستثناء فيما فيه كفّارةٌ‏.‏ وتمام القول في الاستثناء في الطّلاق المعلّق ينظر في بحث الأيمان، وتمام الكلام على تفريع مسائل الاستثناء وتفصيل الكلام فيها في أبواب الفقه المختلفة، فيرجع في كلّ مسألةٍ منها إلى بابها في الطّلاق والعتاق والهبة واليمين والنّذر وغير ذلك، وما يتعلّق منه بالمباحث الأصوليّة يرجع إليه في الملحق الأصوليّ‏.‏

استجمارٌ

التّعريف

1 - الاستجمار لغةً‏:‏ الاستنجاء بالحجارة، مأخوذٌ من الجمرات والجمار، وهي الأحجار الصّغيرة‏.‏ واستجمر واستنجى واحدٌ‏.‏

صفته‏:‏ الحكم التّكليفي

2 - الاستنجاء بالحجر ونحوه وحده، أو بالماء وحده واجبٌ عند الجمهور على التّخيير، وسنّةٌ مؤكّدةٌ عند الحنفيّة، والجمع بينهما أفضل‏.‏ ولكن يتعيّن الاستنجاء بالماء في المنيّ، والحيض، والنّفاس، وفي البول، والغائط إذا انتشر انتشاراً كثيراً، واختلف في بول المرأة‏.‏ وتفصيل أحكام الاستجمار في مصطلح «استنجاءٌ»‏.‏

استحاضةٌ

التعريف

1 - الاستحاضة لغةً‏:‏ مصدر استحيضت المرأة فهي مستحاضةٌ‏.‏ والمستحاضة من يسيل دمها ولا يرقأ، في غير أيّامٍ معلومةٍ، لا من عرق الحيض بل من عرقٍ يقال له‏:‏ العاذل‏.‏ وعرّف الحنفيّة الاستحاضة بأنّها‏:‏ دم عرقٍ انفجر ليس من الرّحم‏.‏ وعرّفها الشّافعيّة بأنّها‏:‏ دم علّةٍ يسيل من عرقٍ من أدنى الرّحم يقال له العاذل، قال الرّمليّ‏:‏ الاستحاضة دمٌ تراه المرأة غير دم الحيض والنّفاس، سواءٌ اتّصل بهما أم لا‏.‏ وجعل من أمثلتها الدّم الّذي تراه الصّغيرة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحيض‏:‏

2 - الحيض دمٌ ينفضه رحم امرأةٍ بالغةٍ لا داء بها ولا حبل، ولم تبلغ سنّ الإياس

ب - النّفاس‏:‏

3 - النّفاس دمٌ يخرج عقب الولادة، وهذا القدر لا خلاف فيه، وزاد المالكيّة في الأرجح‏:‏ ومع الولادة، وزاد الحنابلة‏:‏ مع ولادةٍ وقبلها بيومين أو ثلاثةٍ‏.‏

4 - وتفترق الاستحاضة عن الحيض والنّفاس بأمورٍ منها‏:‏

أ - الحيض له وقتٌ، وذلك حين تبلغ المرأة تسع سنين فصاعداً، فلا يكون المرئيّ فيما دونه حيضاً، وكذلك ما تراه بعد سنّ اليأس لا يكون حيضاً عند الأكثر، أمّا الاستحاضة فليس لها وقتٌ معلومٌ‏.‏

ب - الحيض دمٌ يعتاد المرأة في أوقاتٍ معلومةٍ من كلّ شهرٍ، أمّا الاستحاضة فهي دمٌ شاذٌّ يخرج من فرج المرأة في أوقاتٍ غير معتادةٍ‏.‏

ج - الحيض دمٌ طبيعيٌّ لا علاقة له بأيّ سببٍ مرضيٍّ، في حين أنّ دم الاستحاضة دمٌ ناتجٌ عن فسادٍ أو مرضٍ أو اختلال الأجهزة أو نزف عرقٍ‏.‏

د - لون دم الحيض أسود ثخينٌ منتنٌ له رائحةٌ كريهةٌ غالباً، بينما لون دم الاستحاضة أحمر رقيقٌ لا رائحة له‏.‏

هـ – دم النّفاس لا يكون إلاّ مع ولادةٍ‏.‏ الاستمرار عند الحنفيّة‏:‏

5 – الاستحاضة غالباً ما تحصل بالاستمرار، وهو‏:‏ زيادة الدّم عن أكثر مدّة الحيض أو النّفاس، وهذا عند الحنفيّة إذ لم يعتبر الاستمرار بهذا المعنى غيرهم، والاستمرار إمّا أن يكون في المعتادة أو في المبتدأة‏.‏

الاستمرار في المعتادة

6 - إذا استمرّ دم المعتادة وجاوز أكثر الحيض فطهرها وحيضها ما اعتادت، وتردّ إلى عادتها في الحيض والطّهر في جميع الأحكام، بشرط أن يكون طهرها المعتاد أقلّ من ستّة أشهرٍ، أمّا إذا كان طهرها أكثر من ستّة أشهرٍ فلا تردّ إلى عادتها في الطّهر، وقد بيّن ابن عابدين سبب ذلك فقال‏:‏ لأنّ الطّهر بين الدّمين أقلّ من أدنى مدّة الحمل عادةً، وأدنى مدّة الحمل كما هو معلومٌ ستّة أشهرٍ‏.‏ وللعلماء عدّة أقوالٍ لتقدير طهر المرأة في مثل هذه الحالة أقواها قولان، وهما‏:‏

أ - يقدّر طهرها بستّة أشهرٍ إلاّ ساعةً؛ تحقيقاً للتّفاوت بين طهر الحمل وطهر الحيض‏.‏

ب - يقدّر طهرها بشهرين، وهو ما اختاره الحاكم الشّهيد‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ إنّ أكثر العلماء يقولون بالأوّل، ولكن الفتوى على الثّاني؛ لأنّه أيسر على المفتي والنّساء‏.‏

الاستمرار في المبتدأة

7 - ذكر البركويّ أربع حالاتٍ للمبتدأة، وهذا عند الحنفيّة، أمّا عند الأئمّة الثّلاثة‏:‏ الشّافعيّ، وأحمد، ومالكٍ، فسيأتي بيان أحوالها في الموضع التّالي‏.‏ وثلاثٌ من حالات المبتدأة تتّصل بموضوع الاستمرار، أمّا الحالة الرّابعة للمبتدأة عند الحنفيّة فستأتي ‏(‏ف 13‏)‏

حالات الاستمرار في المبتدأة

8 - الأولى‏:‏ أن يستمرّ بها الدّم من أوّل ما بلغت، فحينئذٍ يقدّر حيضها من أوّل الاستمرار عشرة أيّامٍ، وطهرها عشرين ثمّ ذلك دأبها، وإذا صارت نفساء فنفاسها يقدّر بأربعين يوماً، ثمّ بعد النّفاس يقدّر بعشرين يوماً طهراً، إذ لا يتوالى نفاسٌ وحيضٌ عند الحنفيّة، بل لا بدّ من طهرٍ تامٍّ بينهما، ولمّا كان تقديره بين الحيضتين عشرين، فليكن كذلك بين النّفاس والحيض تقديراً مطّرداً‏.‏

الثّانية‏:‏ أن ترى دماً وطهراً فاسدين، والدّم الفاسد عند الحنفيّة ما زاد على عشرة أيّامٍ، والطّهر الفاسد ما نقص عن خمسة عشر يوماً، فلا يعتدّ بما رأت من حيث نصب العادة به، بل يكون حيضها عشرةً، ولو حكماً، من حين استمرّ بها الدّم، ويكون طهرها عشرين، وذلك دأبها حتّى ترى دماً وطهراً صحيحين‏.‏ بيان ذلك‏:‏ مراهقةٌ ‏(‏أي مقاربةٌ للبلوغ‏)‏ رأت أحد عشر يوماً دماً وأربعة عشر طهراً، ثمّ استمرّ بها الدّم، فحيضها عشرةٌ وطهرها عشرون، والطّهر النّاقص الفاصل بين الدّمين يعتبر كالدّم المستمرّ حكماً، وعليه تكون هذه كالّتي استمرّ بها الدّم من أوّل ما بلغت، فيكون حيضها عشرة أيّامٍ من أوّل أيّام الدّم الأحد عشر وطهرها عشرين‏.‏ هذا إذا كان الطّهر فاسداً بأن كان أقلّ من خمسة عشر يوماً، أمّا إذا كان خمسة عشر يوماً فأكثر وقد فسد بمخالطته دم الاستحاضة، كمبتدأةٍ رأت أحد عشر دماً وخمسة عشر طهراً ثمّ استمرّ بها الدّم، فالدّم الأوّل فاسدٌ لزيادته على العشرة، والطّهر صحيحٌ ظاهراً لأنّه تامٌّ إذ هو خمسة عشر يوماً، ولكنّه فاسدٌ في المعنى لأنّ أوّله دمٌ، وهو اليوم الزّائد على العشرة، وليس من الحيض عند الحنفيّة؛ لأنّ أكثر الحيض عشرة أيّامٍ فقط عندهم فهو من الطّهر، وبما أنّ الطّهر خالطه الدّم في أوّله فلا يصلح أن يكون عادةً‏.‏ قال ابن عابدين في شرح رسالة الحيض‏:‏ والحاصل أنّ فساد الدّم يفسد الطّهر المتخلّل فيجعله كالدّم المتوالي، فتصير المرأة كأنّها ابتدئت بالاستمرار، ويكون حيضها عشرةً وطهرها عشرين، ولكن إن لم يزد الدّم والطّهر على ثلاثين يعتبر ذلك من أوّل ما رأت، وإن زاد يعتبر من أوّل الاستمرار الحقيقيّ، ويكون جميع ما بين دم الحيض الأوّل ودم الاستمرار طهراً‏.‏

الثّالثة‏:‏ أن ترى دماً صحيحاً، وطهراً فاسداً، فإنّ الدّم الصّحيح يعتبر عادةً لها فقط، فتردّ إليه في زمن الاستمرار، ويكون طهرها أثناء الاستمرار بقيّة الشّهر‏.‏ فلو رأت المبتدأة خمسةً دماً وأربعة عشر طهراً ثمّ استمرّ الدّم، فحيضها خمسةٌ وطهرها بقيّة الشّهر خمسةٌ وعشرون، فتصلّي من أوّل الاستمرار أحد عشر يوماً تكملة الطّهر، ثمّ تترك الصّلاة خمسةً، ثمّ تغتسل وتصلّي خمسةً وعشرين وهكذا، وكذلك الحكم إذا كان الطّهر فاسداً في المعنى فقط، كما لو رأت المبتدأة ثلاثةً دماً وخمسة عشر طهراً، ثمّ يوماً دماً ثمّ خمسة عشر طهراً ثمّ استمرّ بها الدّم، فإنّ اليوم الّذي رأت فيه الدّم - وقد توسّط بين الطّهرين - أفسدهما معاً لأنّه لا يعتبر حيضاً فهو من الطّهر، وعليه‏:‏ فالأيّام الثّلاثة الأولى حيضٌ، وواحدٌ وثلاثون يوماً طهرٌ، ثمّ تستأنف من أوّل الاستمرار فثلاثةٌ حيضٌ، وسبعةٌ وعشرون طهرٌ، وهكذا دأبها، وبهذا تشترك هذه المسألة مع السّابقة في الحكم، من حيث نصب العادة عند الاستمرار في كلّ شهرٍ‏.‏ وإذا كان الطّهر الثّاني الّذي مرّ بها قبل الاستمرار طهراً فاسداً - لأنّه أقلّ من خمسة عشر يوماً - فالحكم يختلف عمّا تقرّر؛ لأنّه أمكن اعتبار اليوم الّذي رأت فيه الدّم بعد الخمسة عشر الأولى من أيّام الحيض‏.‏ فلو رأت المراهقة ثلاثة أيّامٍ دماً، ثمّ خمسة عشر يوماً طهراً، ثمّ يوماً دماً، ثمّ أربعة عشر يوماً طهراً، ثمّ استمرّ بها الدّم، فالأيّام الثّلاثة الأول دمٌ صحيحٌ، فهو حيضٌ، والخمسة عشر بعدها طهرٌ صحيحٌ، واليوم الّذي بعدها مع اثنين ممّا بعده حيضٌ، ثمّ طهرها خمسة عشر، اثنا عشر من أيّام الانقطاع الّتي سبقت الاستمرار، وثلاثةٌ من أوّل الاستمرار، ولهذا تصلّي من أوّل الاستمرار ثلاثةً ثمّ تعتبر حائضاً ثلاثةً فتترك فيها الصّلاة، ثمّ تغتسل وتصلّي خمسة عشر يوماً، وهكذا يقدّر حيضها بثلاثةٍ وطهرها بخمسة عشر‏.‏

أمّا الحالة الرّابعة فستبحث في الفقرة استحاضة المبتدأة بالحمل‏.‏

استحاضة المبتدأة بالحيض، والمبتدأة بالحمل

9 - المبتدأة بالحيض هي الّتي كانت في أوّل حيضٍ فابتدأت بالدّم، واستمرّ بها‏.‏ فعند الحنفيّة تقدّم تفصيل حكمها‏.‏

10 - وعند المالكيّة تعتبر المبتدأة بأترابها، فإن تجاوزتهنّ فرواية ابن القاسم في المدوّنة‏:‏ تتمادى إلى تمام خمسة عشر يوماً، ثمّ هي مستحاضةٌ تغتسل وتصلّي وتصوم‏.‏ وفي رواية ابن زيادٍ عن مالكٍ‏:‏ أنّها تقتصر على عوائد أترابها أي في السّنّ، فتأخذ بعوائدهنّ في الحيض من قلّة الدّم وكثرته، يقال إنّها تقيم قدر أيّام لدّاتها، ثمّ هي مستحاضةٌ بعد ذلك تصلّي وتصوم، إلاّ أن ترى دماً تستكثره لا تشكّ فيه أنّه دم حيضةٍ‏.‏ وقالوا أيضاً‏:‏ إنّ المستحاضة إذا عرفت أنّ الدّم النّازل هو دم الحيض، بأن ميّزته بريحٍ أو ثخنٍ أو لونٍ أو تألّمٍ، فهو حيضٌ بشرط أن يتقدّمه أقلّ الطّهر، وهو خمسة عشر يوماً، فإن لم تميّز، أو ميّزت قبل تمام أقلّ الطّهر فهي مستحاضةٌ أي باقيةٌ على أنّها طاهرةٌ، ولو مكثت على ذلك طول حياتها‏.‏

11 - وأمّا المبتدأة بالحيض عند الشّافعيّة، فقد قالوا‏:‏ المبتدأة إمّا أن تكون مميّزةً لما تراه أو لا، فإذا كانت المبتدأة مميّزةً لما تراه بأن ترى في بعض الأيّام دماً قويّاً وفي بعضها دماً ضعيفاً، أو في بعضها دماً أسود وفي بعضها دماً أحمر، وجاوز الدّم أكثر الحيض، فالضّعيف أو الأحمر استحاضةٌ وإن طال، والأسود أو القويّ حيضٌ إن لم ينقص الأسود أو القويّ عن أقلّ الحيض، وهو يومٌ وليلةٌ عندهم، ولا جاوز أكثر الحيض وهو خمسة عشر يوماً أيضاً، حتّى لو رأت يوماً وليلةً أسود ثمّ اتّصل به الضّعيف، وتمادى سنين كان طهراً، وإن كانت ترى الدّم دائماً؛ لأنّ أكثر الطّهر لا حدّ له، فإن فقد شرطٌ من ذلك كأن رأت الأسود أقلّ من يومٍ وليلةٍ أو ستّة عشر، أو رأت الضّعيف أربعة عشر، أو رأت أبداً يوماً أسود ويومين أحمر فحكمها كحكم غير المميّزة لما تراه‏.‏ والمبتدأة غير المميّزة عند الشّافعيّة، بأن رأت الدّم بصفةٍ واحدةٍ أو بصفاتٍ مختلفةٍ لكن فقدت شرطاً من شروط التّمييز الّتي ذكرت، فإن لم تعرف وقت ابتداء دمها فحكمها حكم المتحيّرة، كما ذكره الرّافعيّ وسيأتي بيانه، وإن عرفته فالأظهر أنّ حيضها يومٌ وليلةٌ من أوّل الدّم وإن كان ضعيفاً؛ لأنّ ذلك هو المتيقّن، وما زاد مشكوكٌ فيه، فلا يحكم بأنّه حيضٌ، وطهرها تسعةٌ وعشرون يوماً تتمّة الشّهر‏.‏

12 - وأمّا الحنابلة فقالوا‏:‏ إنّ المبتدأة إمّا أن تكون مميّزةً لما تراه أو لا، فإن كانت مميّزةً عملت بتمييزها إن صلح الأقوى أن يكون حيضاً، بأن لم ينقص عن يومٍ وليلةٍ، ولم يزد على خمسة عشر يوماً، وإن كانت غير مميّزةٍ قدّر حيضها بيومٍ وليلةٍ، وتغتسل بعد ذلك وتفعل ما تفعله الطّاهرات‏.‏ وهذا في الشّهر الأوّل والثّاني والثّالث، أمّا في الشّهر الرّابع فتنتقل إلى غالب الحيض، وهو ستّة أيّامٍ أو سبعةٌ باجتهادها أو تحرّيها‏.‏ وقال صاحب مطالب أولي النّهى في شرح غاية المنتهى‏:‏ لو رأت يوماً وليلةً دماً أسود، ثمّ رأت دماً أحمر، وجاوز خمسة عشر يوماً، فحيضها زمن الدّم الأسود، وما عداه استحاضةٌ لأنّه لا يصلح حيضاً‏.‏ أو رأت في الشّهر الأوّل خمسة عشر يوماً دماً أسود، وفي الشّهر الثّاني أربعة عشر، وفي الشّهر الثّالث ثلاثة عشر، فحيضها زمن الأسود‏.‏ وإن لم يكن دمها متميّزاً، بأن كان كلّه أسود أو أحمر ونحوه، أو كان متميّزاً، ولم يصلح الأسود ونحوه أن يكون حيضاً بأن نقص عن يومٍ وليلةٍ، أو زاد عن الخمسة عشر يوماً، فتجلس أقلّ الحيض من كلّ شهرٍ لأنّه اليقين حتّى تتكرّر استحاضتها ثلاثاً؛ لأنّ العادة لا تثبت بدونها، ثمّ تجلس بعد التّكرار من مثل أوّل وقت ابتداءٍ بها إن علمته من كلّ شهرٍ ستّاً أو سبعاً بتحرٍّ، أو تجلس من أوّل كلّ شهرٍ هلاليٍّ إن جهلته، أي‏:‏ وقت ابتدائها بالدّم ستّاً أو سبعاً من الأيّام بلياليها بتحرٍّ في حال الدّم وعادة أقاربها النّساء، ونحوه، لحديث «حمنة بنت جحشٍ قالت‏:‏ يا رسول اللّه إنّي أستحاض حيضةً كبيرةً شديدةً، قد منعتني الصّوم والصّلاة، فقال‏:‏ تحيضي في علم اللّه ستّاً أو سبعاً ثمّ اغتسلي»‏.‏ ويتّجه احتمالٌ قويٌّ بوجوب قضاء من جهلت وقت ابتدائها بالدّم نحو صومٍ كطوافٍ واعتكافٍ واجبين فيما فعلته أي الصّوم ونحوه قبل التّحرّي، كمن جهل القبلة وصلّى بلا تحرٍّ فيقضي ولو أصاب‏.‏

13 - وأمّا المبتدأة بالحمل‏:‏ وهي الّتي حملت من زوجها قبل أن تحيض إذا ولدت فرأت الدّم زيادةً عن أربعين يوماً عند الحنفيّة، والحنابلة فالزّيادة استحاضةٌ عند الحنفيّة؛ لأنّ الأربعين للنّفاس كالعشرة للحيض، فالزّيادة في كلٍّ منهما استحاضةٌ دون نظرٍ إلى تمييزٍ أو عدمه‏.‏ أمّا عند الحنابلة فإن أمكن أن يكون حيضاً فحيضٌ، وإلاّ فاستحاضةٌ؛ لأنّه يتصوّر عندهم اقتران الحيض بالنّفاس‏.‏ وعند المالكيّة، والشّافعيّة الزّيادة على السّتّين استحاضةٌ، وفرّقوا بين المميّزة لما ترى وغير المميّزة، كما في الحيض‏.‏ فإذا بلغت بالحمل وولدت واستمرّ بها الدّم، ولم تر طهراً صحيحاً بعد ولادتها وانتهاء مدّة نفاسها - وهي أربعون يوماً عند الحنفيّة، والحنابلة - فيقدّر طهرها بعد الأربعين بعشرين يوماً، ثمّ بعده يكون حيضها عشرةً وطهرها عشرين، وهذا شأنها ما دامت حالة الاستمرار قائمةً بها‏.‏ وإذا ولدت فرأت أربعين يوماً دماً، ثمّ خمسة عشر طهراً، ثمّ استمرّ بها الدّم، فحيضها عشرةٌ من أوّل الاستمرار، وطهرها خمسة عشر، أي تردّ إلى عادتها في الطّهر إذا كان طهراً صحيحاً خمسة عشر يوماً فأكثر، وكذلك يكون هذا الرّدّ إذا رأت ستّة عشر يوماً طهراً فما فوقها إلى واحدٍ وعشرين، فعندئذٍ يقدّر حيضها بتسعةٍ وطهرها بواحدٍ وعشرين، ثمّ كلّما زاد الطّهر نقص من الحيض مثله إلى أن يكون حيضها ثلاثةً، وطهرها سبعةً وعشرين، فإذا زاد الطّهر على سبعةٍ وعشرين فحيضها عشرةٌ من أوّل الاستمرار، وطهرها مثل ما رأيت قبل الاستمرار كائناً ما كان عدده‏.‏ بخلاف ما إذا كان طهرها ناقصاً عن خمسة عشر يوماً فإنّه يقدّر بعد الأربعين - الّتي هي مدّة نفاسها - بعشرين وحيضها بعشرةٍ، فهي بمنزلة الّذي وضعت واستمرّ بها الدّم ابتداءً، وإذا كان طهرها الّذي رأته بعد الأربعين الّتي للنّفاس كاملاً خمسة عشر يوماً فأكثر، وقد زاد دمها على أربعين في النّفاس بيومٍ مثلاً، فسد هذا الطّهر في المعنى؛ لأنّه خالطه دمٌ يوم تؤمر بالصّلاة فيه، ولهذا لا يصلح لاعتباره عادةً لها، فيقدّر حيضها وطهرها حسب التّفصيل التّالي‏:‏ فإذا كان بين نهاية النّفاس - الأربعين - وأوّل الاستمرار عشرون يوماً فأكثر، كأن زاد دمها على الأربعين بخمسةٍ أو ستّةٍ وطهرت بعده خمسة عشر ثمّ استمرّ بها الدّم، فإنّه يقدّر حيضها من أوّل الاستمرار بعشرة أيّامٍ، وطهرها بعشرين، وهكذا دأبها‏.‏ وإن كان بين النّفاس وأوّل الاستمرار أقلّ من عشرين كأن زاد دمها على الأربعين بيومٍ أو يومين فإنّه يكمل طهرها إلى العشرين، ويؤخذ من أوّل الاستمرار ما يتمّ به تكميل هذه العشرين، ثمّ يقدّر حيضها بعد ذلك بعشرةٍ وطهرها بعشرين وهكذا‏.‏ والجدير بالذّكر أنّ المبتدأة بالحيض أو النّفاس إذا انقطع دمها لأقلّ من عشرة أيّامٍ في الحيض، ولأقلّ من أربعين في النّفاس، فإنّها تغتسل وتصلّي في آخر الوقت، وتصوم احتياطاً، ولا يحلّ لزوجها وطؤها حتّى يستمرّ الانقطاع إلى تمام العشرة في الحيض، هذا إذا انقطع لتمام ثلاثة أيّامٍ، أمّا إذا انقطع لأقلّ من ثلاثةٍ فهو استحاضةٌ وليس بحيضٍ، فتتوضّأ وتصلّي في آخر الوقت‏.‏ وهذا كلّه عند الحنفيّة‏.‏

14 - أمّا أحكام المبتدأة بالحمل عند الشّافعيّة والمالكيّة فقولهم هنا كأقوالهم في المبتدأة بالحيض‏.‏ والمالكيّة قالوا‏:‏ تعتبر المبتدأة بأترابها، فإن تمادى بها الدّم فالمشهور أنّها تعتكف ستّين يوماً، ثمّ هي مستحاضةٌ تغتسل، وتصوم وتصلّي، وتوطأ‏.‏ فإذا عبر الدّم السّتّين عند الشّافعيّة فينزل منزلة عبوره أكثر الحيض؛ لأنّ النّفاس كالحيض في غالب أحكامه، فكذلك في الرّدّ إليه، فيقاس بما ذكر في الحيض وفاقاً وخلافاً، فينظر هنا أيضاً إذا كانت المرأة مبتدأةً في النّفاس أم معتادةً، مميّزةً لما تراه أم غير مميّزةٍ، ويقاس بما تقدّم في الحيض، فتردّ المبتدأة المميّزة إلى التّمييز شرط ألاّ يزيد القويّ على ستّين عند الشّافعيّة والمالكيّة، وغير المميّزة تردّ إلى لحظةٍ في الأظهر عند الشّافعيّة، والمعتادة المميّزة تردّ إلى التّمييز لا العادة في الأصحّ، وغير المميّزة الحافظة تردّ إلى العادة، وتثبت العادة بمرّةٍ في الأصحّ عند الشّافعيّة، وأمّا النّاسية لعادتها فتردّ إلى مردّ المبتدأة في قولٍ، وتحتاط في القول الآخر‏.‏ أمّا الحنابلة فيرون أنّ النّفساء إذا زاد دمها على الأربعين، ووافق عادة حيضٍ فهو حيضٌ، وما زاد فهو استحاضةٌ‏.‏ وإن لم يوافق عادة حيضٍ فما زاد على الأربعين استحاضةٌ، ولم يفرّقوا بين مبتدأةٍ بالحمل أو معتادةٍ له‏.‏

استحاضة ذات العادة

أ - ذات العادة بالحيض‏:‏

15 - مذهب الحنفيّة في ذات العادة بالحيض - وهي الّتي تعرف شهرها ووقت حيضها وعدد أيّامها أنّه‏:‏ إذا رأت المعتادة ما يوافق عادتها من حيث الزّمن والعدد، فكلّ ما رأته حيضٌ‏.‏ وإذا رأت ما يخالف عادتها من حيث الزّمن أو العدد أو كلاهما، فحينئذٍ قد تنتقل العادة وقد لا تنتقل، ويختلف حكم ما رأت، فتتوقّف معرفة حال ما رأت من الحيض والاستحاضة على انتقال العادة‏.‏ فإن لم تنتقل كما إذا زاد الدّم عن العشرة ردّت إلى عادتها، فيجعل المرئيّ في العادة حيضاً، والباقي الّذي جاوز العادة استحاضةً‏.‏ وإن انتقلت العادة فكلّ ما رأته حيضٌ‏.‏ وتفصيل قاعدة انتقال العادة وحالاتها وأمثلتها في مصطلح ‏(‏حيضٌ‏)‏‏.‏

16 - وعند المالكيّة‏:‏ أقوالٌ متعدّدةٌ أشار إليها ابن رشدٍ في المقدّمات أشهرها‏:‏ أنّها تبقى أيّامها المعتادة، وتستظهر ‏(‏أي تحتاط‏)‏ بثلاثة أيّامٍ، ثمّ تكون مستحاضةً تغتسل وتصلّي وتصوم وتطوف ويأتيها زوجها، ما لم تر دماً تنكره بعد مضيّ أقلّ مدّة الطّهر من يوم حكم باستحاضتها، وهو ظاهر رواية ابن القاسم عن مالكٍ في المدوّنة‏.‏ وعلى هذه الرّواية تغتسل عند تمام الخمسة عشر يوماً استحباباً لا إيجاباً‏.‏ وهذا كلّه إذا لم تكن مميّزةً، أمّا المميّزة فتعمل بتمييزها من رؤية أوصاف الدّم وأحواله من التّقطّع والزّيادة واللّون، فتميّز به ما هو حيضٌ، وما هو استحاضةٌ‏.‏ وإذا أتاها الحيض في وقته، وانقطع بعد يومٍ أو يومين أو ساعةٍ، وأتاها بعد ذلك قبل طهرٍ تامٍّ، فإنّها تلفّق أيّام الدّم بعضها إلى بعضٍ، فإن كانت معتادةً فتلفّق عادتها واستظهارها، وإن كانت مبتدأةً لفّقت نصف شهرٍ، وإن كانت حاملاً في ثلاثة أشهرٍ فأكثر لفّقت نصف شهرٍ ونحوه، أو بعد ستّة أشهرٍ لفّقت عشرين يوماً ونحوها‏.‏ والأيّام الّتي استظهرت بها هي فيها حائضٌ، وهي مضافةٌ إلى الحيض، إن رأت الدّم فيها بعد ذلك وإن لم تره، وأيّام الطّهر الّتي كانت تلغيها عند انقطاع الدّم في خلال ذلك، وكانت لا ترى فيها دماً هي فيها طاهرةٌ، تصلّي فيها ويأتيها زوجها وتصومها، وليست تلك الأيّام بطهرٍ تعتدّ به في عدّةٍ من طلاقٍ؛ لأنّ الّذي قبل تلك الأيّام من الدّم، والّتي بعد تلك الأيّام قد أضيفت بعضها إلى بعضٍ وجعل حيضةً واحدةً، وكلّ ما بين ذلك من الطّهر ملغًى، ثمّ تغتسل بعد الاستظهار، وتصلّي، وتتوضّأ لكلّ صلاةٍ، إن رأت الدّم في تلك الأيّام، وتغتسل كلّ يومٍ إذا انقطع عنها الدّم من أيّام الطّهر‏.‏

17 - أمّا عند الشّافعيّة فالمعتادة بالحيض إمّا أن تكون غير مميّزةٍ لما ترى بأن كان الدّم بصفةٍ واحدةٍ، أو كان بصفاتٍ متعدّدةٍ، وفقدت شرط التّمييز، ولكن سبق لها حيضٌ وطهرٌ، وهي تعلم أيّام حيضها وطهرها قدراً ووقتاً فتردّ إليهما قدراً ووقتاً، وتثبت العادة بمرّةٍ في الأصحّ‏.‏ وأمّا المعتادة المميّزة فيحكم بالتّمييز لا بالعادة في الأصحّ، كما لو كانت عادتها خمسةً من أوّل كلّ شهرٍ وباقيه طهرٌ، فاستحيضت فرأت عشرةً سواداً من أوّل الشّهر وباقيه حمرةً، فحيضتها العشرة السّواد وما يليه استحاضةٌ‏.‏ والقول الثّاني يحكم بالعادة، فيكون حيضها الخمسة الأولى‏.‏ والأوّل أصحّ لأنّ التّمييز علامةٌ قائمةٌ في شهر الاستحاضة، فكان اعتباره أولى من اعتبار عادةٍ انقضت‏.‏

18 - أمّا الحنابلة‏:‏ فقالوا لا تخلو المستحاضة من أربعة أحوالٍ‏:‏ مميّزةٍ لا عادة لها، ومعتادةٍ لا تمييز لها، ومن لها عادةٌ وتمييزٌ، ومن لا عادة لها ولا تمييز‏.‏ أمّا المميّزة‏:‏ وهي الّتي لدمها إقبالٌ وإدبارٌ، بعضه أسود ثخينٌ منتنٌ، وبعضه أحمر مسرّقٌ أو أصفر أو لا رائحة له، ويكون الدّم الأسود أو الثّخين لا يزيد عن أكثر الحيض، ولا ينقص عن أقلّه، فحكم هذه‏:‏ أنّ حيضها زمان الدّم الأسود أو الثّخين أو المنتن، فإن انقطع فهي مستحاضةٌ، تغتسل للحيض، وتتوضّأ بعد ذلك لكلّ صلاةٍ وتصلّي‏.‏ أمّا المستحاضة الّتي لها عادةٌ ولا تمييز لها؛ لكون دمها غير منفصلٍ أي على صفةٍ لا تختلف، ولا يتميّز بعضه من بعضٍ، أو كان منفصلاً، إلاّ أنّ الدّم الّذي يصلح للحيض دون أقلّ الحيض، أو فوق أكثره ‏؟‏ فهذه لا تمييز لها، فإن كانت لها عادةٌ قبل أن تستحاض جلست أيّام عادتها، واغتسلت عند انقضائها، ثمّ تتوضّأ بعد ذلك لوقت كلّ صلاةٍ‏.‏ والقسم الثّالث‏:‏ من لها عادةٌ وتمييزٌ، فاستحيضت، ودمها متميّزٌ، بعضه أسود وبعضه أحمر، فإن كان الأسود في زمن العادة فقد اتّفقت العادة والتّمييز في الدّلالة فيعمل بهما، وإن كان أكثر من العادة أو أقلّ - ويصلح أن يكون حيضاً - ففيه روايتان‏:‏ الرّواية الأولى‏:‏ اعتبار العادة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم لأمّ حبيبة إذ سألته عن الدّم‏:‏ «امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثمّ اغتسلي وصلّي» ولأنّ العادة أقوى‏.‏ والثّانية‏:‏ يقدّم التّمييز فيعمل به وتدع العادة‏.‏ أمّا القسم الرّابع‏:‏ وهي الّتي لا عادة لها ولا تمييز فسيأتي تفصيله في موضوع ‏(‏استحاضة من ليس لها عادةٌ‏)‏‏.‏

ب - ذات العادة في النّفاس‏:‏

19 - إذا رأت ذات العادة بالنّفاس زيادةً عن عادتها، فإن كانت عادتها أربعين فعند الحنفيّة الزّيادة استحاضةٌ، وإن كانت عادتها دون الأربعين، وكانت الزّيادة إلى الأربعين أو دونها، فما زاد يكون نفاساً، وإن زاد على الأربعين تردّ إلى عادتها فتكون عادتها نفاساً، وما زاد على العادة يكون استحاضةً‏.‏ أمّا عند المالكيّة والشّافعيّة فما ذكر في الحيض للمعتادة يذكر هنا أيضاً‏.‏ حيث ذهب مالكٌ والشّافعيّ إلى أنّ أكثر النّفاس ستّون يوماً‏.‏ فعند المالكيّة الزّائد عن السّتّين كلّه استحاضةٌ ولا تستظهر، فإنّ الاستظهار خاصٌّ بالحيض، وأمّا عند الشّافعيّة فما زاد على السّتّين فهو استحاضةٌ فإذا عبر دم النّفساء السّتّين ففيه طريقان‏:‏ أصحّهما أنّه كالحيض إذا عبر الخمسة عشر في الرّدّ إلى التّمييز إن كانت مميّزةً لما ترى، أو العادة إن كانت معتادةً غير مميّزةٍ، والثّاني له ثلاثة أوجهٍ‏:‏ الأوّل‏:‏ أصحّهما كالطّريق الأوّل أي أنّه كالحيض‏.‏ الثّاني‏:‏ أنّ السّتّين كلّها نفاسٌ، وما زاد على السّتّين استحاضةٌ، اختاره المزنيّ‏.‏ الثّالث‏:‏ أنّ السّتّين نفاسٌ، والّذي بعده حيضٌ فعلى هذا قال أبو الحسن بن المرزبانيّ‏:‏ قال صاحبا التّتمّة والعدّة‏:‏ إن زاد الدّم بعد السّتّين حكمنا بأنّها مستحاضةٌ في الحيض‏.‏ وهذا الوجه ضعيفٌ جدّاً، وهو أضعف من الّذي قبله‏.‏ وقالت الحنابلة‏:‏ إن زاد دم النّفساء على أربعين يوماً وأمكن جعله حيضاً فهو حيضٌ، وإلاّ فهو استحاضةٌ‏.‏ ولم نقف فيما بين أيدينا من مراجع الحنابلة أنّهم تحدّثوا عن عادة في النّفاس‏.‏

استحاضة من ليس لها عادةٌ معروفة

20 - من لم يكن لها عادةٌ معروفةٌ في الحيض - بأن كانت ترى شهراً ستّاً وشهراً سبعاً - فاستمرّ بها الدّم، فإنّها تأخذ في حقّ الصّلاة والصّوم والرّجعة بالأقلّ، وفي حقّ انقضاء العدّة والوطء بالأكثر، فعليها أن تغتسل في اليوم السّابع لتمام اليوم السّادس وتصلّي فيه، وتصوم إن كان دخل عليها شهر رمضان احتياطاً‏.‏ وإذا كانت هذه تعتبر حيضةً ثالثةً يكون قد سقط حقّ الزّوج في مراجعتها‏.‏ وأمّا في انقضاء العدّة للزّواج من آخر، وحلّ استمتاع الزّوج بها فتأخذ بالأكثر؛ لأنّ تركها التّزوّج مع جوازه أولى من أن تتزوّج بدون حقّ التّزوّج، وكذا ترك الوطء مع احتمال الحلّ، أولى من الوطء مع احتمال الحرمة، فإذا جاء اليوم الثّامن فعليها أن تغتسل ثانياً، وتقضي اليوم السّابع الّذي صامته؛ لأنّ الأداء كان واجباً، ووقع الشّكّ في السّقوط، إن لم تكن حائضاً فيه صحّ صومها ولا قضاء عليها، وإن كانت حائضاً فعليها القضاء، فلا يسقط القضاء بالشّكّ‏.‏ وليس عليها قضاء الصّلوات؛ لأنّها إن كانت طاهرةً في هذا اليوم فقد صلّت، وإن كانت حائضاً فيه فلا صلاة عليها، وبالتّالي لا قضاء عليها‏.‏ ولو كانت عادتها خمسةً فحاضت ستّةً، ثمّ حاضت حيضةً أخرى سبعةً، ثمّ حاضت حيضةً أخرى ستّةً، فعادتها ستّةٌ بالإجماع حتّى ينبني الاستمرار عليها‏.‏ أمّا عند أبي يوسف فلأنّ العادة تنتقل بالمرّة الواحدة، وإنّما ينبني الاستمرار على المرّة الأخيرة لأنّ العادة انتقلت إليها، وأمّا عند أبي حنيفة ومحمّدٍ فلأنّ العادة وإن كانت لا تنتقل إلاّ بالمرّتين فقد رأت السّتّة مرّتين‏.‏ وكذلك الحكم في جميع ما ذكر لمن ليس لها عادةٌ معروفةٌ في النّفاس‏.‏

استحاضة المتحيّرة

21 - المتحيّرة‏:‏ هي الّتي نسيت عادتها بعد استمرار الدّم وتوصف بالمحيّرة بصيغة اسم الفاعل، لأنّها تحيّر المفتي، وبصيغة اسم المفعول لأنّها حيّرت بسبب نسيانها، وتدعى أيضاً المضلّة؛ لأنّها أضلّت عادتها‏.‏ ومسائل المحيّرة من أصعب مسائل الحيض وأدقّها، ولها صورٌ كثيرةٌ وفروعٌ دقيقةٌ، ولهذا يجب على المرأة حفظ عادتها في الزّمان والعدد‏.‏ وجميع الأحكام في هذه المسألة تبنى على الاحتياط، وإن كان هناك تشديدٌ في بعض الصّور فليس القصد التّشديد لأنّها لم ترتكب محظوراً‏.‏ وتفصيل أحكام المتحيّرة في مصطلحها‏.‏

ما تراه المرأة الحامل من الدّم أثناء حملها

22 - إذا رأت المرأة الحامل الدّم حال الحبل وقبل المخاض، فليس بحيضٍ وإن كان ممتدّاً بالغاً نصاب الحيض، بل هو استحاضةٌ عند الحنفيّة والحنابلة‏.‏ وكذلك ما تراه حالة المخاض وقبل خروج أكثر الولد عند الحنفيّة، أمّا الحنابلة فقد نصّوا على أنّ الدّم الّذي تراه الحامل قبل الولادة بيومين أو ثلاثةٍ دم نفاسٍ وإن كان لا يعدّ من مدّة النّفاس‏.‏ واستدلّ الحنفيّة‏:‏ بقول عائشة الحامل لا تحيض ومثل هذا لا يعرف بالرّأي‏.‏ وقال الشّافعيّ‏:‏ هو حيضٌ في حقّ ترك الصّوم والصّلاة وحرمة القربان، لا في حقّ أقراء العدّة، واحتجّ بما يروى عنه صلى الله عليه وسلم «أنّه قال لفاطمة بنت أبي حبيشٍ‏:‏ إذا أقبل قرؤك فدعي الصّلاة» من غير فصلٍ بين حالٍ وحالٍ‏.‏ ولأنّ الحامل من ذوات الأقراء إلاّ أنّ حيضها لا يعتبر في حقّ أقراء العدّة؛ لأنّ المقصود من أقراء العدّة فراغ الرّحم، وحيضها لا يدلّ على ذلك‏.‏ أمّا المالكيّة فإنّهم نصّوا على أنّ الحامل إذا رأت دماً في الشّهر الأوّل أو الثّاني يعتبر حيضاً، وتعامل كأنّها حاملٌ؛ لأنّ الحمل لا يستبين - عادةً - في هذه المدّة، وأمّا إذا رأت دماً في الشّهر الثّالث أو الرّابع أو الخامس واستمرّ كان أثر حيضها عشرين يوماً، وما زاد فهو استحاضةٌ‏.‏ وإنّما فرّقوا في أكثر الحيض بين الحامل وغيرها؛ لأنّ الحمل يحبس الدّم، فإذا خرج كان زائداً، وربّما استمرّ لطول المكث‏.‏ وأمّا إن رأته في الشّهر السّابع أو الثّامن أو التّاسع واستمرّ نازلاً كان أكثر الحيض في حقّها ثلاثين يوماً‏.‏ وأمّا إن رأته في الشّهر السّادس فظاهر المدوّنة أنّ حكمها حكم ما إذا حاضت في الشّهر الثّالث، وخالف في ذلك شيوخ إفريقيّة فرأوا أنّ حكمه حكم ما بعده وهو المعتمد‏.‏ وبعد هذه المدّة يعتبر استحاضةً‏.‏

ما تراه المرأة من الدّم بين الولادتين‏:‏ إن كانت حاملاً بتوأمين

23 - التّوأم‏:‏ اسم ولدٍ إذا كان معه آخر في بطنٍ واحدٍ، فالتّوأمان هما الولدان في بطنٍ واحدٍ إذا كان بينهما أقلّ من ستّة أشهرٍ، يقال لكلّ واحدٍ توأمٌ، وللأنثى توأمةٌ‏.‏ فإن كان بين الأوّل والثّاني أقلّ من ستّة أشهرٍ فالدّم الّذي تراه النّفساء بين الولادتين دمٌ صحيحٌ، أي نفاسٌ في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمّدٍ وزفر دمٌ فاسدٌ أي استحاضةٌ، وذلك بناءً على أنّ المرأة إذا ولدت وفي بطنها ولدٌ آخر، فالنّفاس من الولد الأوّل عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمّدٍ وزفر من الولد الثّاني، وانقضاء العدّة بالولد الثّاني بالإجماع‏.‏ وجه قول محمّدٍ وزفر‏:‏ أنّ النّفاس يتعلّق بوضع ما في البطن، كانقضاء العدّة، فيتعلّق بالولد الأخير، وهذا لأنّها لا تزال حبلى، وكما لا يتصوّر انقضاء عدّة الحمل بدون وضع الحمل، لا يتصوّر وجود النّفاس من الحبلى؛ لأنّ النّفاس بمنزلة الحيض، فكان الموجود قبل وضع الولد الثّاني نفاساً من وجهٍ دون وجهٍ، فلا تسقط الصّلاة عنها بالشّكّ‏.‏ ولأبي حنيفة وأبي يوسف‏:‏ أنّ النّفاس إن كان دماً يخرج عقيب الولادة فقد وجد بولادة الأوّل، بخلاف انقضاء العدّة؛ لأنّه يتعلّق بفراغ الرّحم ولم يوجد، وبقاء الولد الثّاني في البطن لا ينافي النّفاس‏.‏ ويتّفق الحنابلة في إحدى الرّوايتين مع الشّيخين، وفي الرّواية الثّانية مع محمّدٍ وزفر وذكر أبو الخطّاب أنّ أوّل النّفاس من الولد الأوّل‏.‏ وتبدأ للثّاني بنفاسٍ جديدٍ‏.‏

24 - وعند المالكيّة‏:‏ الدّم الّذي بين التّوأمين نفاسٌ، وقيل حيضٌ، والقولان في المدوّنة‏.‏ وعند الشّافعيّة‏:‏ ثلاثة أوجهٍ كالّتي رويت عن الحنابلة‏.‏

أحكام المستحاضة

25 - دم الاستحاضة حكمه كالرّعاف الدّائم، أو كسلس البول، حيث تطالب المستحاضة بأحكامٍ خاصّةٍ تختلف عن أحكام الأصحّاء، وعن أحكام الحيض والنّفاس، وهي‏:‏

أ - يجب ردّ دم الاستحاضة، أو تخفيفه إذا تعذّر ردّه بالكلّيّة، وذلك برباطٍ أو حشوٍ أو بالقيام أو بالقعود، كما إذا سال أثناء السّجود ولم يسل بدونه، فتومئ من قيامٍ أو من قعودٍ، وكذا لو سال الدّم عند القيام صلّت من قعودٍ؛ لأنّ ترك السّجود أو القيام أو القعود أهون من الصّلاة مع الحدث‏.‏ وهكذا إذا كانت المستحاضة تستطيع منع سيلان الدّم بالاحتشاء فيلزمها ذلك، فإذا نفذت البلّة أو أخرجت الحشوة المبتلّة انتقض وضوءها‏.‏ فإذا ردّت المستحاضة الدّم بسببٍ من الأسباب المذكورة أو نحوها خرجت عن أن تكون صاحبة عذرٍ‏.‏ واعتبر المالكيّة المستحاضة صاحبة عذرٍ كمن به سلسٌ، فإذا فارقها الدّم أكثر زمن وقت الصّلاة لم تعدّ صاحبة عذرٍ‏.‏ ونصّ المالكيّة على أنّها إذا رأت الدّم عند الوضوء فإذا قامت ذهب عنها، قال مالكٌ‏:‏ تشدّ ذلك بشيءٍ ولا تترك الصّلاة‏.‏ ويستثنى من وجوب الشّدّ أو الاحتشاء أمران‏:‏ الأوّل‏:‏ أن تتضرّر المستحاضة من الشّدّ أو الاحتشاء‏.‏ الثّاني‏:‏ أن تكون صائمةً فتترك الاحتشاء نهاراً لئلاّ يفسد صومها‏.‏ وإذا قامت المستحاضة ومن في حكمها من المعذورين بالشّدّ أو الاحتشاء ثمّ خرج الدّم رغم ذلك ولم يرتدّ، أو تعذّر ردّه واستمرّ وقت صلاةٍ كاملٍ، فلا يمنع خروج الدّم أو وجوده من صحّة الطّهارة والصّلاة، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «قالت فاطمة بنت أبي حبيشٍ لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّي امرأةٌ أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصّلاة ‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ ذلك عرقٌ، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصّلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدّم وصلّي»، وفي روايةٍ‏:‏ «توضّئي لكلّ صلاةٍ»، وفي روايةٍ‏:‏ «توضّئي لوقت كلّ صلاةٍ»، وفي روايةٍ أخرى‏:‏ «وإن قطر الدّم على الحصير»‏.‏ وذكر الحنفيّة للمستحاضة ولغيرها من المعذورين ثلاثة شروطٍ‏:‏ الأوّل‏:‏ شرط الثّبوت‏:‏ حيث لا يصير من ابتلي بالعذر معذوراً، ولا تسري عليه أحكام المعذورين، حتّى يستوعبه العذر وقتاً كاملاً لصلاةٍ مفروضةٍ ولو حكماً، وليس فيه انقطاعٌ - في جميع ذلك الوقت - زمناً بقدر الطّهارة والصّلاة، وهذا شرطٌ متّفقٌ عليه بين الفقهاء‏.‏ الثّاني‏:‏ شرط الدّوام، وهو أن يوجد العذر في كلّ وقتٍ آخر، سوى الوقت الأوّل الّذي ثبت به العذر ولو مرّةً واحدةً‏.‏ الثّالث‏:‏ شرط الانقطاع، وبه يخرج صاحبه عن كونه معذوراً، وذلك بأن يستمرّ الانقطاع وقتاً كاملاً فيثبت له حينئذٍ حكم الأصحّاء من وقت الانقطاع‏.‏

ما تمتنع عنه المستحاضة

26 - قال البركويّ من علماء الحنفيّة‏:‏ الاستحاضة حدثٌ أصغر كالرّعاف‏.‏ فلا تسقط بها الصّلاة ولا تمنع صحّتها أي على سبيل الرّخصة للضّرورة، ولا تحرّم الصّوم فرضاً أو نفلاً، ولا تمنع الجماع - لحديث حمنة‏:‏ أنّها كانت مستحاضةً وكان زوجها يأتيها - ولا قراءة قرآنٍ، ولا مسّ مصحفٍ، ولا دخول مسجدٍ، ولا طوافاً إذا أمنت التّلويث‏.‏ وحكم الاستحاضة كالرّعاف الدّائم، فتطالب المستحاضة بالصّلاة والصّوم‏.‏ وكذلك الشّافعيّة، والحنابلة، قالوا‏:‏ لا تمنع المستحاضة عن شيءٍ، وحكمها حكم الطّاهرات في وجوب العبادات، واختلف عن أحمد في الوطء، فهناك روايةٌ أخرى عنه بالمنع كالحيض ما لم يخف على نفسه الوقوع في محظورٍ‏.‏ وقال المالكيّة كما في الشّرح الصّغير‏:‏ هي طاهرٌ حقيقةً‏.‏ وهذا في غير المستحاضة المتحيّرة، فإنّ لها أحكاماً خاصّةً تنظر تحت عنوان ‏(‏متحيّرةٌ‏)‏‏.‏

طهارة المستحاضة

27 - يجب على المستحاضة عند الشّافعيّة، والحنابلة الاحتياط في طهارتي الحدث والنّجس، فتغسل عنها الدّم، وتحتشي بقطنةٍ أو خرقةٍ دفعاً للنّجاسة أو تقليلاً لها، فإن لم يندفع الدّم بذلك وحده تحفّظت بالشّدّ والتّعصيب‏.‏ وهذا الفعل يسمّى استثفاراً وتلجّماً، وسمّاه الشّافعيّ التّعصيب‏.‏ قال الشّافعيّة‏:‏ وهذا الحشو والشّدّ واجبٌ إلاّ في موضعين‏:‏ أحدهما أن تتأذّى بالشّدّ‏.‏ والثّاني‏:‏ أن تكون صائمةً فتترك الحشو نهاراً وتقتصر على الشّدّ والتّلجّم فإذا استوثقت على الصّفة المذكورة، ثمّ خرج دمها بلا تفريطٍ لم تبطل طهارتها ولا صلاتها 28 - وأمّا إذا خرج الدّم لتقصيرها في التّحفّظ فإنّه يبطل طهرها‏.‏ وأمّا عند الحنفيّة فيجب على المعذور ردّ عذره، أو تقليله إن لم يمكن ردّه بالكلّيّة‏.‏ وبردّه لا يبقى ذا عذرٍ‏.‏ أمّا إن كان لا يقدر على الرّبط أو منع النّشّ فهو معذورٌ‏.‏ وأمّا غسل المحلّ وتجديد العصابة والحشو لكلّ فرضٍ، فقال الشّافعيّة‏:‏ ينظر إن زالت العصابة عن موضعها زوالاً له تأثيرٌ، أو ظهر الدّم على جوانبها، وجب التّجديد بلا خلافٍ؛ لأنّ النّجاسة كثرت وأمكن تقليلها والاحتراز عنها‏.‏ فإن لم تزل العصابة عن موضعها ولا ظهر الدّم، فوجهان عند الشّافعيّة، أصحّهما‏:‏ وجوب التّجديد كما يجب تجديد الوضوء، والثّاني‏:‏ إذ لا معنى للأمر بإزالة النّجاسة مع استمرارها، بخلاف الأمر بتجديد طهارة الحدث مع استمراره فإنّه معهودٌ في التّيمّم‏.‏ وعند الحنابلة لا يلزمها إعادة الغسل والعصب لكلّ صلاةٍ إن لم تفرّط، قالوا‏:‏ لأنّ الحدث مع قوّته وغلبته لا يمكن التّحرّز منه، ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت «اعتكف مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ من أزواجه، فكانت ترى الدّم والصّفرة والطّست تحتها وهي تصلّي» رواه البخاريّ‏.‏

ب - حكم ما يسيل من دم المستحاضة على الثّوب‏:‏

28ـ إذا أصاب الثّوب من الدّم مقدار مقعّر الكفّ فأكثر وجب عند الحنفيّة غسله، إذا كان الغسل مفيداً، بأن كان لا يصيبه مرّةً بعد أخرى، حتّى لو لم تغسل وصلّت لا يجوز، وإن لم يكن مفيداً لا يجب ما دام العذر قائماً‏.‏ أي إن كان لو غسلت الثّوب تنجّس ثانياً قبل الفراغ من الصّلاة، جاز ألاّ تغسل؛ لأنّ في إلزامها التّطهير مشقّةً وحرجاً‏.‏ وإن كان لو غسلته لا يتنجّس قبل الفراغ من الصّلاة، فلا يجوز لها أن تصلّي مع بقائه، إلاّ في قولٍ مرجوحٍ‏.‏ وعند الشّافعيّة إذا تحفّظت لم يضرّ خروج الدّم، ولو لوّث ملبوسها في تلك الصّلاة خاصّةً‏.‏ ولا يضرّ كذلك عند الحنابلة؛ لقولهم‏:‏ إن غلب الدّم وقطر بعد ذلك لم تبطل طهارتها‏.‏

متى يلزم المستحاضة أن تغتسل

29 - نقل صاحب المغني في ذلك أقوالاً‏:‏ الأوّل‏:‏ تغتسل عندما يحكم بانقضاء حيضها أو نفاسها‏.‏ وليس عليها بعد ذلك إلاّ الوضوء ويجزيها ذلك‏.‏ وهذا رأي جمهور العلماء‏.‏ «لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيشٍ‏:‏ إنّما ذلك عرقٌ وليست بالحيضة، فإذا أقبلت فدعي الصّلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدّم وصلّي، وتوضّئي لكلّ صلاةٍ» قال التّرمذيّ‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ ولحديث عديّ بن ثابتٍ عن أبيه عن جدّه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في المستحاضة‏:‏ تدع الصّلاة أيّام أقرائها ثمّ تغتسل وتصلّي، وتتوضّأ لكلّ صلاةٍ»‏.‏ الثّاني‏:‏ أنّها تغتسل لكلّ صلاةٍ‏.‏ روي ذلك عن عليٍّ وابن عمر وابن عبّاسٍ وابن الزّبير، وهو أحد قولي الشّافعيّ في المتحيّرة؛ لأنّ عائشة روت «أنّ أمّ حبيبة استحيضت، فأمرها النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكلّ صلاةٍ» متّفقٌ عليه‏.‏ إلاّ أنّ أصحاب القول الأوّل قالوا‏:‏ إنّ ذكر الوضوء لكلّ صلاةٍ زيادةٌ يجب قبولها‏.‏ ومن هنا قال المالكيّة والحنابلة‏:‏ يستحبّ لها أن تغتسل لكلّ صلاةٍ‏.‏ ويكون الأمر في الحديث للاستحباب‏.‏ الثّالث‏:‏ أنّها تغتسل لكلّ يومٍ غسلاً واحداً، روي هذا عن عائشة وابن عمر وسعيد بن المسيّب‏.‏ الرّابع‏:‏ تجمع بين كلّ صلاتي جمعٍ بغسلٍ واحدٍ، وتغتسل للصّبح‏.‏

وضوء المستحاضة وعبادتها

30 - قال الشّافعيّ‏:‏ تتوضّأ المستحاضة لكلّ فرضٍ وتصلّي ما شاءت من النّوافل، لحديث فاطمة بنت أبي حبيشٍ السّابق؛ ولأنّ اعتبار طهارتها ضرورةٌ لأداء المكتوبة، فلا تبقى بعد الفراغ منها‏.‏ وقال مالكٌ في أحد قولين‏:‏ تتوضّأ لكلّ صلاةٍ، واحتجّ بالحديث المذكور‏.‏ فمالكٌ عمل بمطلق اسم الصّلاة، والشّافعيّ قيّده بالفرض؛ لأنّ الصّلاة عند الإطلاق تنصرف إلى الفرض، والنّوافل أتباع الفرائض؛ لأنّها شرعت لتكميل الفرائض جبراً للنّقصان المتمكّن فيها، فكانت ملحقةً بأجزائها، والطّهارة الواقعة لصلاةٍ مفروضةٍ واقعةٌ لها بجميع أجزائها، بخلاف فرضٍ آخر لأنّه ليس بتبعٍ، بل هو أصلٌ بنفسه‏.‏ والقول الثّاني للمالكيّة‏:‏ أنّ تجديد الوضوء لوقت كلّ صلاةٍ مستحبٌّ، وهو طريقة العراقيّين من المالكيّة‏.‏ وعند الحنفيّة والحنابلة‏:‏ تتوضّأ المستحاضة وأمثالها من المعذورين لوقت كلّ صلاةٍ مفروضةٍ، وتصلّي به في الوقت ما شاءت من الفرائض والنّذور والنّوافل والواجبات، كالوتر والعيد وصلاة الجنازة والطّواف ومسّ المصحف‏.‏ واستدلّ الحنفيّة بقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيشٍ‏:‏ «وتوضّئي لوقت كلّ صلاةٍ»‏.‏ ولا ينتقض وضوء المستحاضة بتجدّد العذر، بعد أن يكون الوضوء في حال سيلان الدّم‏.‏ قال الحنفيّة‏:‏ فلو توضّأت مع الانقطاع ثمّ سال الدّم انتقض الوضوء‏.‏ ولو توضّأت من حدثٍ آخر - غير العذر - في فترة انقطاع العذر، ثمّ سال الدّم انتقض الوضوء أيضاً‏.‏ وكذا لو توضّأت من عذر الدّم، ثمّ أحدثت حدثاً آخر انتقض الوضوء‏.‏ بيان ذلك‏:‏ لو كان معها سيلانٌ دائمٌ مثلاً، وتوضّأت له، ثمّ أحدثت بخروج بولٍ انتقض الوضوء‏.‏

31 - ثمّ اختلف الحنفيّة في طهارة المستحاضة، هل تنتقض عند خروج الوقت ‏؟‏ أم عند دخوله ‏؟‏ أم عند كلٍّ من الخروج والدّخول ‏؟‏ قال أبو حنيفة ومحمّدٌ‏:‏ تنتقض عند خروج الوقت لا غير؛ لأنّ طهارة المعذور مقيّدةٌ بالوقت فإذا خرج ظهر الحدث‏.‏ وقال زفر‏:‏ عند دخول الوقت لا غير، وهو ظاهر كلام أحمد؛ لحديث «توضّئي لكلّ صلاةٍ» وفي روايةٍ «لوقت كلّ صلاةٍ»‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ عند كلٍّ منهما، أي للاحتياط‏.‏ وهو قول أبي يعلى من الحنابلة‏.‏ وثمرة الخلاف تظهر في موضعين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يوجد الخروج بلا دخولٍ، كما إذا توضّأت في وقت الفجر ثمّ طلعت الشّمس، فإنّ طهارتها تنتقض عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّدٍ لوجود الخروج، وعند زفر وأحمد لا تنتقض لعدم دخول الوقت؛ لأنّ من طلوع الشّمس إلى الظّهر ليس بوقت صلاةٍ، بل هو وقتٌ مهملٌ‏.‏ والثّاني‏:‏ أن يوجد الدّخول بلا خروجٍ، كما إذا توضّأت قبل الزّوال ثمّ زالت الشّمس، فإنّ طهارتها لا تنتقض عند أبي حنيفة ومحمّدٍ لعدم الخروج، وعند أبي يوسف وزفر وأحمد تنتقض لوجود الدّخول‏.‏ فلو توضّأت لصلاة الضّحى أو لصلاة العيد فلا يجوز لها أن تصلّي الظّهر بتلك الطّهارة، على قول أبي يوسف وزفر وأحمد، بل تنتقض الطّهارة لدخول وقت الظّهر‏.‏ وأمّا على قول أبي حنيفة ومحمّدٍ فتجوز لعدم خروج الوقت‏.‏ أمّا عند الشّافعيّة فينتقض وضوءها بمجرّد أداء أيّ فرضٍ، ولو لم يخرج الوقت أو يدخل كما تقدّم‏.‏ وأمّا عند المالكيّة فهي طاهرٌ حقيقةً على ما سبق‏.‏

برء المستحاضة وشفاؤها

32 - عند الشّافعيّة إذا انقطع دم المستحاضة انقطاعاً محقّقاً حصل معه برؤها وشفاؤها من علّتها، وزالت استحاضتها، نظر‏:‏ إن حصل هذا خارج الصّلاة‏:‏

أ - فإن كان بعد صلاتها، فقد مضت صلاتها صحيحةً، وبطلت طهارتها فلا تستبيح بها بعد ذلك نافلةً‏.‏

ب - وإن كان ذلك قبل الصّلاة بطلت طهارتها، ولم تستبح تلك الصّلاة ولا غيرها‏.‏ أمّا إذا حصل الانقطاع في نفس الصّلاة ففيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ بطلان طهارتها وصلاتها‏.‏ والثّاني‏:‏ لا تبطل كالتّيمّم‏.‏ والرّاجح الأوّل‏.‏ وإذا تطهّرت المستحاضة وصلّت فلا إعادة عليها‏.‏ ولا يتصوّر هذا التّفصيل عند الحنفيّة؛ لأنّهم يعتبرونها معذورةً لوجود العذر في الوقت ولو لحظةً كما سبق‏.‏ ولا يتصوّر هذا عند المالكيّة أيضاً؛ لأنّها طاهرٌ حقيقةً‏.‏ أمّا الحنابلة فعندهم تفصيلٌ‏.‏ قالوا‏:‏ إن كان لها عادةٌ بانقطاعٍ زمناً يتّسع للوضوء والصّلاة تعيّن فعلهما فيه‏.‏ وإن عرض هذا الانقطاع لمن عادتها الاتّصال بطلت طهارتها، ولزم استئنافها‏.‏ فإن وجد الانقطاع قبل الدّخول في الصّلاة لم يجز الشّروع فيها‏.‏ وإن عرض الانقطاع في أثناء الصّلاة أبطلها مع الوضوء‏.‏ ومجرّد الانقطاع يوجب الانصراف إلاّ أن يكون لها عادةٌ بانقطاعٍ يسيرٍ‏.‏ ولو توضّأت ثمّ برئت بطل وضوءها إن وجد منها دمٌ بعد الوضوء‏.‏

عدّة المستحاضة

33 - سبقت الإشارة إلى بعض أحكامها‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏عدّةٌ‏)‏‏.‏

استحالةٌ

التّعريف

1 - من معاني الاستحالة لغةً‏:‏ تغيّر الشّيء عن طبعه ووصفه، أو عدم الإمكان‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء والأصوليّين للفظ ‏(‏استحالةٍ‏)‏ عن هذين المعنيين اللّغويّين‏.‏

الحكم الإجماليّ وموطن البحث

يختلف الحكم تبعاً للاستعمالات الفقهيّة أو الأصوليّة‏:‏

2 - الاستعمال الفقهيّ الأوّل‏:‏ بمعنى تحوّل الشّيء وتغيّره عن وصفه‏.‏ ومن ذلك استحالة العين النّجسة‏.‏ وبم تكون الاستحالة ‏؟‏ الأعيان النّجسة، كالعذرة، والخمر، والخنزير، قد تتحوّل عن أعيانها وتتغيّر أوصافها، وذلك بالاحتراق أو بالتّخليل، أو بالوقوع في شيءٍ طاهرٍ، كالخنزير يقع في الملاحة، فيصير ملحاً‏.‏ وقد اتّفق الفقهاء على طهارة الخمر باستحالتها بنفسها خلاًّ، ويختلفون في طهارتها بالتّخليل‏.‏ أمّا النّجاسات الأخرى الّتي تتحوّل عن أصلها فقد اختلفوا في طهارتها‏.‏ ويفصّل ذلك الفقهاء في مبحث الأنجاس، وكيفيّة تطهيرها، فمن يحكم بطهارتها يقول‏:‏ إنّ استحالة العين تستتبع زوال الوصف المرتّب عليها عند بعض الفقهاء‏.‏ ويرتّبون على ذلك فروعاً كثيرةً، تفصيلها في مصطلح ‏(‏تحوّلٌ‏)‏‏.‏

3 - الاستعمال الفقهيّ الثّاني‏:‏ بمعنى عدم إمكان الوقوع‏.‏ ومن ذلك استحالة وقوع المحلوف عليه، أو استحالة الشّرط الّذي علّق عليه الطّلاق ونحوه‏.‏ فمن الشّرائط الّتي ذكرها الفقهاء في المحلوف عليه‏:‏ ألاّ يكون مستحيل التّحقّق عقلاً أو عادةً، أي بأن يكون متصوّر الوجود حقيقةً أو عادةً، ويضربون لذلك أمثلةً، كمن يحلف‏:‏ لأشربنّ الماء الّذي في الكوز، ولا ماء فيه، وهذا في المستحيل حقيقةً‏.‏ وكحلفه ليصعدنّ إلى السّماء، فهو مستحيلٌ عادةً‏.‏ وهم يختلفون في الحنث وعدمه، والكفّارة وعدمها، وهل يكون ذلك في يمين البرّ أو الحنث ‏؟‏ وهل الحكم يستوي في ذلك إن كانت اليمين مؤقّتةً أو مطلقةً ‏؟‏ ويفصّل الفقهاء ذلك في مسائل الأيمان، ومسائل الطّلاق، ومسائل العتق‏.‏

الاستعمال الأصولي

4 - يستعمل الأصوليّون لفظ استحالةٍ بمعنى‏:‏ عدم إمكان الوقوع، ومن ذلك حكم التّكليف بالمستحيل لذاته أو لغيره وقد اختلف الأصوليّون في جواز التّكليف بالممتنع، وقسّموه إلى‏:‏ ممتنعٍ لذاته، وممتنعٍ لغيره‏.‏ فالممتنع لذاته، كالجمع بين الضّدّين‏.‏ اختار جمهور الأصوليّين أنّه لا يجوز التّكليف به‏.‏ والمستحيل لغيره إن كانت استحالته عادةً، كالتّكليف بحمل الجبل، فالجمهور على جواز التّكليف به عقلاً، وعدم وقوعه شرعاً‏.‏ وإن كانت استحالته لعدم تعلّق إرادة اللّه به، كإيمان أبي جهلٍ، فالكلّ مجمعٌ على جوازه عقلاً، ووقوعه شرعاً‏.‏ وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ‏.‏